أيتها السيدات والسادة الحضور الكرام،
يسعدني أن أشارك بهذه المداخلة الافتتاحية في أشغال اليوم الدراسي حول آليات التعاون بين البرلمان و المجتمع المدني، والذي ينعقد بشراكة بين مجلس المستشارين و عدد من المنظمات الوطنية والدولية ذات التجربة الوازنة في مجال العلاقات بين البرلمان و المجتمع المدني و آليات الديمقراطية التشاركية.
و وفاء لممارسة دأبت عليها منذ مدة، تتمثل في عدم اختزال الكلمة الافتتاحية في أبعادها البروتوكولية، و إنما استثمارها في تقاسم عدد من الأفكار و العناصر الإطارية التي يمكن، في حال استحضارها، أن تساهم في البناء التشاركي لتوصيات عملية تتوخى تحقيق مبدأ جوهري يستنتج من خلال قراءة غائية téléologique لمقتضيات الدستور ألا و هو مبدأ التكامل بين الديمقراطية التمثيلية و التشاركية، وهو مبدأ يشكل من وجهة نظري إطارا لقراءة مقتضيات الدستور المتعلقة بالبرلمان ، و ممارسة السلطة التشريعية، و الوضع الدستوري للمجتمع المدني.
وكما لا يخفى عليكم فان هذا الإطار من القراءة يستبعد منذ البداية كل قراءة مرتكزة على توتر مفترض أو تعارض محتمل بين هذين النمطين من أنماط المشاركة في تدبير الشأن العام. إن هذا التكامل يستند في أساسه المعياري في الفقرة الثانية من الفصل الأول من الدستور الذي ينص على قيام النظام الدستوري للمملكة على "أساس فصل السلط، وتوازنها وتعاونها، والديمقراطية المواطنة والتشاركية". كما أن هذا التكامل هو أمر مسلم به في مختلف الوثائق المرجعية للاتحاد البرلماني الدولي و يمكن التدليل في هذا الصدد بالقرار حول مشاركة المجتمع المدني و تفاعله مع البرلمان و باقي المجالس المنتخبة ديمقراطيا من أجل تطوير و تنمية الديمقراطية، المصادق عليه من طرف الجمعية البرلمانية المائة و الثالثة عشرة، بجنيف بتاريخ 19 أكتوبر 2005 .
أيتها السيدات و السادة،
أود أن أذكر في هذه المداخلة الافتتاحية، أننا على الأقل في مجلس المستشارين في وضعية تتجاوز مستوى النقاش العام و المبدئي حول مهام و أدوار المجتمع المدني في العمل البرلماني، ذلك أن الإستراتيجية المرحلية لعمل مجلس المستشارين للفترة الممتدة من 2015 إلى 2017 تتوخى تحقيق هدفين ذوي علاقة وثيقة بآليات التعاون بين البرلمان و المجتمع المدني و هما الهدف الثالث المتمثل في " جعل مجلس المستشارين فضاء للحوار العمومي و النقاش المجتمعي التعددي لا سيما بخصوص الموضوعات الرئيسية لإعمال الدستور و تحقيق الطابع الفعلي للتمتع بالحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و البيئية" و كذا الهدف الخامس المتمثل في " وضع إطار مؤسساتي متكامل لآليات ممارسة الديمقراطية التشاركية في مجال اختصاص المجلس".
كما أن المجلس هو بصدد إعمال هذه الأهداف ، وأظن أنه قطع بعض الأشواط في هذا الصدد، من خلال إجراءات ذات أولوية حددت في خريطة الطريق ذاتها و منها على الخصوص:
-
تعديل النظام الداخلي لمأسسة العمل الترافعي للمجتمع المدني على مستوى المجلس (نظام للتسجيل لدى مكتب المجلس حسب موضوعات الترافع، كيفيات و شروط تنظيم الأنشطة المتعلقة بالترافع، شفافية عمليات الترافع، إمكانية الاستماع إلى ممثلي المجتمع المدني في إطار عمل اللجان الدائمة، وضع البنيات التنظيمية لتلقي و معالجة الملتمسات و العرائض في إطار أجرأة القانونين التنظيميين 44.14 و 64.14 مع مراعاة الانسجام مع مجلس النواب)
-
وضع أرضية plateforme منهجية للاستشارة العمومية سواء عبر منظمات المجتمع المدني، أو عبر رؤساء الجماعات الترابية أو مع المواطنات و المواطنين مباشرة بما في ذلك الاستشارة العمومية الإلكترونية في مختلف مجالات العمل التشريعي و الرقابي لمجلس المستشارين
-
تنظيم منتدى سنوي لمجلس المستشارين و المجتمع المدني من أجل التشاور و التحديد التشاركي للموضوعات ذات الأولوية التي يمكن أن تدرج في إطار عمل مجلس المستشارين في مجال التشريع و الرقابة و تقييم السياسات العمومية
-
وضع آلية مستديمة لنقل الأولويات المعبر عنها في إطار دورات برلمان الطفل إلى مجال العمل التشريعي و الرقابي و تقييم السياسات العمومية الذي يقوم به مجلس المستشارين
-
تنظيم منتدى سنوي لمجلس المستشارين و الجمعيات العاملة في مجال السياسات العمومية للشباب بشراكة مع المجلس الاستشاري للشباب و العمل الجمعوي (المزمع إنشاؤه) و رؤساء الجهات و كذا الهيئات الاستشارية المتعلقة بقضايا الشباب المنصوص عليها في القانون التنظيمي 111-14 المتعلق بالجهات
و بالنظر للطابع المتقدم لمسار إعمال هذه الإجراءات ذات الأولوية فإني ألتمس من كافة المشاركات و المشاركين في هذا اليوم الدراسي أن لا يتوقفوا عند مرحلة النقاش العام حول الأدوار و المهام و آليات التعاون بين البرلمان و المجتمع، و أن يستثمروا فرصة التقاء خبراء وطنيين و منظمات دولية و فاعلين مدنيين ذوي تجربة غنية في الترافع لدى البرلمان، من أجل البناء التشاركي لحلول عملية تتعلق بمقترحات تعديل النظام الداخلي لمجلس المستشارين من أجل مأسسة العمل الترافعي للمجتمع المدني على مستوى مجلس المستشارين و بما يراعي متطلبات تناسق و تكامل النظامين الداخليين لمجلسي البرلمان ، ضمانا لنجاعة العمل البرلماني طبقا للفقرة الثانية من الفصل 69 من الدستور.
و في هذا الصدد ألتمس منكم استحضار بعض تجارب الأنظمة الداخلية المقارنة التي سأعرض بعضها على سبيل المثال لا الحصر.
و هكذا يمكن استحضار تجربة آلية المجموعات البينية intergroupes بالبرلمان الأوربي حيث تنص المادة 32 من النظام الداخلي للبرلمان الأوربي على أنه يمكن لنواب البرلمان الأوربي أن ينشئوا مجموعات بينية ...من أجل تبادل الآراء ووجهات النظر بصفة غير رسمية حول موضوعات معينة و تشجيع التواصل مع المجتمع المدني. و لا يمكن لهذه المجموعات أن تمارس أنشطة من شأنها إحداث الخلط مع الأنشطة الرسمية للبرلمان و أجهزته.
و حسب الفقرة الثانية من المادة 32 من النظام الداخلي ، يمكن للفرق أن تسهل عمل المجموعات البينية عبر تقديم دعم لوجيستيكي لها ، كما يجب على المجموعات البينية أن تصرح بكل دعم خارجي تتلقاه.
و قد حدد قرار ندوة الرؤساء بالبرلمان الأوربي المتعلق بقواعد تأسيس المجموعات البينية (بتاريخ 16 ديسمبر 1999 كما وقع تعديله في 14 فبراير 2008 و 12 أبريل 2012) و المتكون من 10 مواد و من ملحقين يتضمنان استمارة تأسيس المجموعات البينية و استمارة التصريح بالمصالح المالية أهم القواعد المتعلقة بالمجموعات البينية ،
و تتميز المجموعات البينية بعدد من الخصائص من أهمها :
-المرونة (محددة بحد أدنى من القواعد الممكن التنصيص عليها في النظام الداخلي فيما يتعلق بتأسيسها و التصريح بأعضائها و مواردها و موضوعاتها و تفادي الخلط بينها و بين أجهزة البرلمان الأخرى ، خاصة اللجان)
- التخصص (لا تؤسس المجموعات البينية من أجل الترافع حول برنامج سياسي متكامل و إنما للعمل و الترافع حول موضوعة أو مجال محدد)
- التنوع السياسي و الحزبي.
و يبدو من خلال تحليل عدد من الأبحاث و الدراسات التي خصصت لآلية المجموعات البينية، أنها تؤكد على كون هذه المجموعات تشكل فضاء جديدا للعمل البرلماني . كما تشير عدد من الدراسات أن إحدى مداخل فعالية اعتبار مصالح المواطنين يمكن أن تمر عبر تفاعل الفرق البرلمانية و اللجان البرلمانية و المجموعات البينية
و هكذا يبدو أن آلية المجموعات البينية تقدم العديد من الفرص .
فمن جهة أولى تمكن هذه الآلية من دعوة مكونات المجتمع المدني (كالجمعيات مثلا) إلى جلسات أو ورشات للاستماع إلى وجهة نظرها و حججها حول موضوعة المجموعة البينية.، علما أن عمل المجموعة البينية هو مكمل لعمل اللجان البرلمانية بحكم طبيعة المعلومات و المعطيات التي توفرها هذه المجموعات. كما يسمح عمل المجموعات البينية بتقييم تشاركي (برلماني-مدني) للسياسات العمومية المتعلقة بالموضوعة المركزية للمجموعة البينية عبر تتبع أجندة السياسات العمومية (agenda control) ، ما دامت هذه الآلية تشكل إطارا للتواصل مع مكونات المجتمع المدني و بشكل خاص مع الجمعيات و الائتلافات المدنية الموضوعاتية العاملة في مجال اهتمام المجموعة البينية .
و يتضح من خلال تحليل ممارسة و موضوعات المجموعات البينية بالبرلمان الأوربي أنها تتمحور بالأساس حول :
-
موضوعات ذات طابع عرضاني (Transversal) : مثال قضايا الشباب، الشيخوخة و التضامن بين الأجيال ، قضايا التغير المناخي ، التنوع و مناهضة العنصرية، الإعاقة
-
موضوعات ذات طابع طليعي avant-gardiste أو استشرافي prospective : مثال الرفاه والموضوعات المتعلقة بالتفكير الاستشرافي في السياسات الاجتماعية (النقابات، الاقتصاد الاجتماعي، المقاولات الصغرى و المتوسطة) أو قضايا جديدة للتنمية الترابية (الجبال و الجزر و المناطق ضعيفة الكثافة السكانية، البحار و المناطق الساحلية)
-
موضوعات مترافع بشأنها من طرف أقلية و تجد صعوبة في دخولها للأجندة البرلمانية في حالة عدم الترافع بشأنها من طرف المجموعات البينية (مسألة جودة التغذية)
و بالنظر لموضوعات المجموعات البينية في البرلمان الأوربي فإنه في البرلمانات ثنائية المجلس (كما في الحالة المغربية) يمكن تصور أن بعض الموضوعات يمكن أن تتحملها مجموعات بينية ينسقها أعضاء من مجلس المستشارين (مثال : الموضوعات المتعلقة بقضايا التنمية الترابية، و القضايا الاقتصادية و الاجتماعية الأخرى) ، بالمقابل فإن الموضوعات ذات الطابع العرضاني من الممكن تحملها من طرف مجموعات بينية ك(قضايا الشباب، الشيخوخة و التضامن بين الأجيال ، قضايا التغير المناخي).
كما أن إحدى الخلاصات الأساسية لتحليل موضوعات المجموعات البينية ، تتمثل في أن هذه الموضوعات تساهم في تحيين و تجديد أجندة السياسات العمومية عبر المدخل البرلماني ، بمشاركة المجتمع المدني ، فبالنظر لكون اللجان مكانا للعمل البرلماني المتخصص فإن عمل المجموعات البينية ، بالنظر لتعبئته لمعلومات و خبرات المجتمع المدني العامل في مجال معين، يمكن أن يشكل إحدى الحلول للإكراهات المتعلقة بمحدودية "الموارد و الوقت" الذي يواجهه البرلمانيون إزاء المهام البرلمانية المتعددة و المعقدة .
و يمكن أيضا التذكير على سبيل المثال بالإمكانية التي يتيحها النظام الداخلي لمجلس الشيوخ البلجيكي في الاستعانة بالخبرة الخارجية collaboration externe ، إذ تنص المادة 28 من النظام الداخلي المذكور على أنه "بموافقة من المكتب أو من رئيس المجلس ، يمكن للجنة في إطار عملها أن تطلب آراء أشخاص أو منظمات لا ينتمون إلى المجلس و أن تطلب منهم إرشادات وثائقية أو تعاونهم، و لا يمكن لهذه الأعمال إلا أن تكون لها طبيعة استشارية".
و ضمن نفس الإطار يمكن استحضار ما يسمى بتجربة مجموعات جميع الأحزاب All – party groups بالبرلمان البريطاني (مجلس العموم و مجلس اللوردات) و هي مجموعات غير رسمية مكونة من أحزاب متعددة، و ليس لها وضع رسمي بالبرلمان، و لا ينبغي خلطها مع الأجهزة الرسمية للبرلمان و بالخصوص مع اللجان.
و تجدر الإشارة إلى أنه يتم تسيير مجموعات جميع الأحزاب من طرف أعضاء مجلس العموم و أعضاء مجلس اللوردات، كما يمكن أن يكون الوزراء ، و الفاعلون المدنيون (أفرادا و منظمات) أعضاء في مجموعات جميع الأحزاب.
. يتضمن دليل القواعد المتعلقة بمجموعات جميع الأحزاب الصادر عن مجلس العموم (في أبريل 2010، كما تم تعديله في أبريل 2012) (Guide to the rules on all-party groups)القواعد الأساسية المحددة لعمل مجموعات جميع الأحزاب و التي يمكن تقديم أهمها كما يلي :
لقد تم إقرار مبدأ وضع سجل لمجموعات جميع الأحزاب بقرار لمجلس العموم بتاريخ 17 دجنبر 1985 و ذلك لتقديم المعلومات بخصوص ثلاث معطيات أساسية:
-
ما هي مجموعات جميع الأحزاب المعترف بها من طرف البرلمان؟
-
من يسير كل مجموعة من مجموعات جميع الأحزاب؟
-
بيان مصدر الدعم المالي و المادي الذي تتلقاه مجموعات جميع الأحزاب من خارج البرلمان؟
أيتها السيدات و السادة،
إني أقترح عليكم أيضا التأمل في تجربة البرلمان الأوربي و خاصة القواعد المتعلقة بتدبير مجموعات المصالح les groupes d’intérêt و كذا تجربة الكونغريس الأمريكي في تقنين ممارسة هذا العمل في إطار قانون 1946 و بشفافية أكبر في ظل القانون الحالي Lobbying disclosure act لسنة 1995 الذي يعتبر lobbying مهنة قائمة الذات و يتعين تسجيل ممارسيها بسكرتارية مجلس النواب و مجلس الشيوخ . و يقتضي ذلك التفكير في مدونة أخلاقيات لممارسة الضغط clean lobbying practices من أجل ضمان الشفافية و معرفة شروط الولوج إلى صانعي القرار المتعلق بالمؤسسات العمومية (و هنا يمكن أن تكون تجربة الكونغريس الأمريكي في مجال إعداد دليل تطبيقي لقانون lobbying بعنوان "Guide to the lobbying disclosure act" مفيدة) كما يمكن أيضا التفكير في إنشاء مركز مندمج للمعلومات و المصادر التشريعية على غرار Législative resource centerبمجلس النواب الأمريكي الذي يقوم بتجميع و توفير الوثائق المتاحة لإطلاع العموم خاصة منها المتعلقة بالتدبير الإداري و المالي ل lobbying .
و هكذا يمكن الاستلهام من هذه التجارب لبناء اقتراح مفاده أن يتضمن النظامان الداخليان لغرفتي البرلمان (مجلس النواب و مجلس المستشارين) مقتضيات تنص على أنه يمكن للجمعيات و المنظمات غير الحكومية المؤسسة بصفة قانونية و كذا الناطقين الرسميين باسم مقدمي الملتمسات و العرائض المشار إليهما في الفصلين 14 و 15 من الدستور و القانونين التنظيميين ذوي الصلة ، التقييد في سجل المجموعات ذات المصلحة بغرض القيام بأعمال التواصل و الترافع داخل مجلس النواب و مجلس المستشارين. على أن يحدد مكتب كل مجلس شروط التقييد في السجل المذكور و كذا كيفيات وأشكال القيام بأعمال التواصل و الترافع المشار إليها، و يستلهم هذا المقترح آلية سجل المجموعات ذات المصلحة من مقتضيات المادة 26 من النظام الداخلي لمكتب الجمعية الوطنية الفرنسية وكذا قواعد الشفافية والأخلاقيات التي حددها مكتب الجمعية الوطنية الفرنسية بقراره بتاريخ 2 يوليوز 2009 .
تلكم أيتها السيدات و السادة، بعض المقترحات على سبيل المثال لا الحصر، التي تستهدف إبراز أولوية التفكير الجماعي و البناء التشاركي لمقترحات و توصيات يمكن استثمارها في فرصة مراجعة النظام الداخلي من أجل مـأسسة العلاقة بين المجتمع المدني و البرلمان في تكامل مع القانونين التنظيميين المتعلقين بالملتمسات و العرائض و مع الممارسات الجيدة التي أفرزها العمل البرلماني في مجال ترافع المجتمع المدني في السنوات الأخيرة.
إننا سننتظر بشغف ما سيسفر عليه اليوم الدراسي من اقتراحات وتوصيات.
أتمنى لأشغال يومكم الدراسي كامل النجاح.