الرباط ـ مقر مجلس المستشارين، 26 أبريل 2016
حضرات السيدات والسادة،
يكتسي موضوع "تحصيل الديون العمومية" أهمية بالغة، نظرا لارتباطه بمختلف المرافق والقطاعات الاقتصادية والاجتماعية وانعكاساته على مختلف الفئات والشرائح المجتمعية من جهة، واعتبارا للإشكالات والأسئلة التي يطرحها على مستويات مختلفة، منها ما هو قانوني مسطري وما هو تقني إجرائي، من جهة ثانية.
ويبقى الأساس في تناول هذا الموضوع، هو أن الدولة ومن منطلق مسؤوليتها في توفير مختلف الموارد والاعتمادات اللازمة لتدبير المرافق العمومية وتمكين هذه الأخيرة من الاضطلاع بالأدوار المنوطة بها على أحسن وجه، فإنها بالمقابل ملزمة باستخلاص مختلف المبالغ المقررة بواسطة الجداول الضريبية وقوائم الإرادات وأوامر المداخيل التي تصدر باسم الملزمين قانونيا بأدائها.
هذه المسؤولية المزدوجة للدولة، بمفهومها الواسع، في توفير الموارد واستخلاص المداخيل، دفعت بالمشرع إلى تخويل صلاحيات واسعة لفائدة الإدارة المكلفة باستيفاء تلك المداخيل، ضمن مدونة تحصيل الديون العمومية، والتي بموجبها أصبح مفهوم التحصيل أكثر وضوحا والأشخاص المكلفون به أكثر تحديدا، كما أصبحت الديون العمومية التي تستخلص بمقتضىاها أكثر تعدادا وتحديدا.
وجدير بالذكر، أن القضاء المغربي بمختلف أنواعه ودرجاته، ما انفك يولي بدوره أهمية لهذا الموضوع من خلال ما يعرض عليه من قضايا ونزاعات تنشأ أثناء تطبيق وتنفيذ الإدارة للقانون المتعلق بتحصيل الديون العمومية، حيث تنطوي الأحكام والقرارات على اجتهادات تعتبر مصدرا خصبا لتعديل الثغرات والنقائص التي تعتري النص القانوني.
غير أنه، يجب الإقرار بأن النصوص التشريعية والاجتهادات القضائية لا تكفي وحدها لتطوير نظام فعال تحصيل الديون العمومية، إذ لا بد من إيلاء نفس القدر من الاهتمام إلى تطوير الجهاز الإداري المكلف بتحصيل الديون العمومية من حيث التنظيم البنيوي والوظيفي، وكذا الاهتمام بالعنصر البشري.
حضرات السيدات والسادة،
إن الوضع اليوم، يؤكد بأن الدولة، في مفهومها الواسع، تجد صعوبات جمة في استخلاص ديونها. ولا أدل على ذلك تراكم ما يصطلح عليه في العرف الإداري بالباقي استخلاصه، الذي يقدر بعشرات المليارات من الدراهم، والذي يطال جزء منه الضياع جراء التقادم.
وعلى سبيل المثال، وفي ظل غياب معطيات رسمية بشأن القيمة الإجمالية للباقي استخلاصه على المستوى الوطني، تجدر الإشارة إلى أن الباقي استخلاصه، على مستوى الجماعات المحلية لوحدها، انتقل خلال الفترة الممتدة ما بين 2009 و2013 من 13 مليار درهم إلى 16.8 مليار درهم، بزيادة بلغت نسبتها 29 بالمائة وبارتفاع سنوي بلغ في المتوسط 7.3 بالمائة، حسب تقرير أصدره المجلس الأعلى للحسابات في شهر مايو 2015.
ويخلص التقرير ذاته، إلى أن الباقي استخلاصه الخاص بالرسوم المحلية المدبرة من طرف الدولة يمثل 84.2 بالمائة من الحجم الإجمالي سنة 2013، وأن معدل نمو التحصيل الجبائي المحلي سجل، خلال الفترة الممتدة ما بين 2009 و2013، نسبة بلغت في المتوسط 4.7 بالمائة، وهو مستوى غير كاف لتقليص الباقي استخلاصه والذي يظل في تصاعد مستمر وبوتيرة سنوية بلغت في المتوسط 7.7 بالمائة، مما يعكس ضعف التحكم في عملية التحصيل، ويؤشر على استمرار المنحى التصاعدي للمتأخرات.
كما يضيف التقرير، بأنه على مستوى الرسوم المحلية المدبرة مباشرة من طرف الجماعات، قد بلغت التخفيضات وعمليات قبول إلغاء الديون غير القابلة للتحصيل أعلى مستويات لها خلال السنة المالية 2010، بما يقارب ربع مجموع التكفلات، في حين قاربت هذه النسبة، خلال الفترة الممتدة ما بين 2009 و2012، ما معدله 6 بالمائة، أي ما يعادل ثمان مرات ونصف النسبة المسجلة على مستوى الجبايات المدبرة من طرف الدولة.
وعلى صعيد آخر، أصدر المجلس الأعلى للحسابات تقريرا حول الإدارة العامة للضرائب يسلط الضوء على العراقيل والاختلالات التي تشهدها منظومة الضرائب، من خلال تحليل وظيفة التحصيل التي تقوم بها المديريات الجهوية للضرائب بالدار البيضاء والرباط.
وتضمن هذا التقرير مجموعة من الملاحظات تفيد بوجود خصاص ونقص مهول على مستوى الإدارة والحكامة الإدارية في هذا المجال، من قبيل: ضعف التنسيق القبلي بين المديرية العامة للضرائب والخزينة العامة للمملكة، قلة الموارد البشرية والمادية، التبعية الإدارية للقابضين (رغم توفرهم على صفة محاسبين عموميين) إلى رؤساء مصالح الوعاء، نقص على مستوى الإحساس بالمسؤولية المترتبة عن مزاولة وظيفة محاسب عمومي لدى عدد من القابضين، غياب نظام معلوماتي يؤطر مسارات وظائف التحصيل، نقائص واختلالات على مستوى التدبير الرقمي للتحصيل...
ونتيجة لهذه النقائص وغيرها، فإن قباضات الإدارة الجبائية، والتي تكلفت بتحصيل جبايات الدولة منذ 2004، راكمت منذ ذلك الحين "باقي استخلاصه" يقدر ب29.6 مليار درهم.
أما على مستوى تقييم عملية تحصيل الغرامات والإدانات النقدية والمصاريف والصوائر القضائية، الذي أجراه المجلس الأعلى للحسابات، والصادر ضمن التقرير السنوي للمجلس المذكور برسم 2012، فيفيد بأنه من خلال الاطلاع على الاحصائيات المتعلقة بالتكفل بالغرامات والمبالغ المستخلصة، أنه منذ أن تسلمت وزارة العدل مهمة تحصيل الغرامات والإدانات النقدية سنة 1993، أخد الباقي استخلاصه يتفاقم بشكل متسارع إلى أن فاق متم سنة 2012 مبلغ 4 ملايير درهم.
كما لوحظ تطور متسارع للمبالغ التي لم يتم تحصيلها من بين تلك التي تم التكفل بها، بحيث سجلت زيادة قدرها 1.324.299.529 درهم خلال الفترة الممتدة مابين بداية 2008 ونهاية 2012، أي بمعدل نمو يناهز 8 بالمائة سنويا. كما أن المبالغ المحصلة بعد أن عرفت انخفاضا سنوات 2008 و2009 و2010 شهدت ارتفاعا مهما خلال سنتي 2011 و2012، إلا أنه بمقارنة هذه المبالغ مع ما تم التكفل به خلال نفس السنة، فإن هذه النسبة بقيت مستقرة في حدود 36 بالمائة.
حضرات السيدات والسادة،
إن هذا الواقع يستوجب منا اليوم، وبملحاحية، أن نقوم بتشخيص شامل لمنظومة تحصيل الديون العمومية بهدف الوقوف على مكامن الخلل والضعف، واستشراف الحلول والسبل الكفيلة بتطوير هذه المنظومة، إن على المستوى المؤسساتي أو على المستوى التنظيمي والإداري...
وهذا التمرين يستوجب، في تقديرنا، الجواب على الأسئلة الجوهرية التالية:
-
إلى أي حد مكنت الضمانات التي أتت بها مدونة التحصيل من تقوية وتحصين الديون العمومية؟
-
هل تضمنت المدونة ما يكفي من الضمانات التي ترمي إلى حماية الملزم من تعسف وانحراف الإدارة؟
-
ما هي الصعوبات العملية التي يثيرها تطبيق المدونة؟
-
ما هي حدود مساهمة القضاء في سبيل إقرار التوازن بين الجهة الدائنة المتمثلة في الخزينة العامة للمملكة والجهة المدينة المتمثلة في الملزمين؟
-
هل نحن في حاجة إلى تحيين النصوص التشريعية المرتبطة بتحصيل الديون العمومية؟ وفي أي اتجاه؟
-
ما هي حدود الإمكانات البشرية والمادية المتاحة للإدارات المكلفة بتحصيل الديون العمومية؟
-
وكيف يمكن تحقيق التنسيق والتكامل بين مختلف الإدارات المعنية بتحصيل الديون العمومية، بشكل يضمن حدا أدنى من الفعالية والنجاعة عدم تنازع الاختصاص؟
تلكم، أيها السيدات والسادة، بعض الأسئلة الجوهرية التي نأمل في أن تتم الإجابة عليها ضمن فعاليات هذه الندوة، انطلاقا من وضع المنظومة الوطنية لتحصيل الديون العمومية على محك النقد والتحليل. وأتمنى أن تتكلل أشغال هذه الندوة الهامة بالنجاح، وأن تفضي إلى مخرجات ملموسة يمكن لمجلسنا الموقر تملكها واستثمارها في عمله، سواء تعلق الأمر بالتشريع أو الرقابة أو تقييم السياسات العمومية...