تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

مداخلة رئيس مجلس المستشارين في أشغال اليوم الدراسي المنعقد حول مشروع القانون المتعلق بهيئة المناصفة ومكافحة التمييز

2016-01-28

 

يسرني أن أشارككم في أشغال هذا اليوم الدراسي المشترك الذي تنظمه منظمة المرأة الاستقلالية والفريق الاستقلالي للوحدة والتعادلية  المحترم حول مشروع القانون رقم 79.14 يتعلق بهيئة المناصفة ومكافحة التمييز .

و بالنظر لكون مسار مناقشة مشروع القانون و مقترحات التعديل المقدمة بشأنه قد وصل مرحلة متقدمة على  مستوى مجلس النواب  فإنني أود التركيز في حدود الوقت المخصص لي على بعض المحددات المنهجية التي أرى ضرورة التذكير بها في بداية أشغال يومكم الدراسي.

لست في البداية في حاجة إلى التذكير بأن الفصل 19 من دستور بلادنا ينص في مقطعيه الأخيرين على سعي الدولة إلى تحقيق مبدأ المناصفة بين الرجال و النساء  و على أنه تحدث لهذه الغاية هيئة مكلفة بالمناصفة و مكافحة كل أشكال التمييز. بالمقابل يحيل الفصل 164 على الهيئة المحدثة بموجب الفصل 19 من الدستور.  

و يستفاد من هذه المقتضيات أن الدستور ينص،  من جهة على الالتزام الإيجابي للدولة بالسعي إلى تحقيق المناصفة بين الرجال و النساء، و هو ما يتطلب على  المستويين التشريعي و التنظيمي و في السياسات العمومية تدابير  و آليات لترجمة سعي الدولة إلى تحقيق هذا الالتزام الإيجابي، و بعبارة أخرى فإن طبيعة الالتزام هنا تنصب أساسا على الآليات و المسارات les mécanismes et les processus .  و يستفاد أيضا من عبارة "لهذه الغاية" الواردة في الفصل 19 أن للهيأة ولاية خاصة تتعلق بالحماية و مناهضة التمييز المبني على أساس الجنس. هذا طبعا اذا أردنا أن نستثمر كامل الدلالات التي تنطوي عليها العبارة المذكورة باستعمال ما يسمى بالتأويل الغائي l’interprétation téléologique

و هكذا فإن أي قانون يتعلق باختصاصات و صلاحيات و تأليف الهيأة يكون في مستوى المتطلبات الدستورية و محترما للطبيعة الدستورية لهذه المؤسسة بوصفها هيأة متخصصة في الحماية و مكافحة التمييز  عل أساس الجنس و الوقاية منه يتطلب هيكلة اختصاصات الهيأة حول مجال الحماية و مكافحة التمييز من جهة  و حول الاختصاصات الأخرى ذات العلاقة بالنهوض بمكافحة التمييز على أساس الجنس من جهة ثانية.

إن هذا التصور  يتجاوز بطبيعة الحال مجرد دراسة الشكايات وإحالتها .  ليشمل بشكل خاص التحقيق لدى المؤسسات العمومية الخاصة و الهيآت الأخرى المنشأة، في حالات التمييز من قبل وكلاء مختصين ومعتمدين لهذه المهمة من قبل الهيأة؛ و كذا تمتيع الهيأة بصلاحية التصدي التلقائي لحالات التمييز .

و في جميع الحالات فإن العمل المستقبلي لهيأة المناصفة و مكافحة كل أشكال التمييز تتطلب ترتيبات مسطرية على مستوى قانون المسطرة الجنائية من أجل اعتبار نتائج اختبارات التمييز في إطار نظام وسائل الإثبات. علما أن  تقنية اختبارات التمييز، التي يجب أن يقوم بها أعوان مكلفون من طرف الهيأة،  تستهدف البرهنة على وجود سلوك أو وضعية تمييزية محتملة.

أما فيما يتعلق بتأليف الهيأة و  بتوزيع صلاحيات  اقتراح و تعيين مختلف أعضائها، فإن من الضروري التذكير بمستلزمات مبدأ توازن السلط المنصوص عليه في الفصل 1 من الدستور, و ما يترتب عن احترام هذا المبدأ ، بالإضافة إلى تكريس تعيين جلالة  الملك لرئاسة و أمانة الهيأة و جزء من أعضائها و ما يمثله من ضمانة جوهرية لاستقلالية  الهيأة.  و هي استقلالية ضرورية بالنظر لكون الهيأة ستتولى النظر في الحالات المحتملة للتمييز التي قد تكون الإدارة العمومية الموضوعة تحت تصرف الحكومة طرفا فيها.

و ضمن نفس المنطق يبدو ، بما أن الأمر يتعلق بهيأة يعتبر تأليفها محدود العدد وبفترض أن تكون مرتكزة  على الخبرة، فان من الضروري أن يتجه التفكير الى الابتعاد  عن منطق التمثيلية الذي يميز مؤسسات هيئات النهوض بالتنمية البشرية وا لمستدامة و الديمقراطية ،

رأيي المتواضع أن من شأن اعتماد هذا المنطق  أن يضمن  تفادي كل العوامل التي من شأنها أن تعرقل مستقبلا مزاولة الهيأة لمهامها بسبب تداخل محددات سياسية و إيديولوجية. ذلك أنه بالنظر للطابع التقني و المسطري لعمل الهيأة فإن الشرعيات الناجمة عن أنماط تعيين الأعضاء على أساس تعدد  مفترض للتيارات الإيديولوجية، من شأنها أن تؤثر سلبا على عمل الهيأة.

كما أود أن أشير أيضا إلى أنه لا يمكن تصور و لا هندسة مهام و صلاحيات المؤسسات الأربع التي تشكل دستوريا هيئات حماية حقوق الإٌنسان و النهوض بها (و هي للتذكير المجلس الوطني لحقوق الإنسان، و الوسيط و مجلس الجالية المغربية بالخارج و الهيأة المكلفة بالمناصفة و مكافحة كل أشكال التمييز) دون منظور متكامل و مندمج لنظام وطني لحماية حقوق الإنسان، منظور لا تتكامل فيه فقط اختصاصات هذه الهيئات الأربع و إنما توجد فيه أيضا ممرات و قناطر مؤسساتية و قانونية  مع المنظومة القضائية باعتبار أن القاضي يتولى حماية حقوق الأشخاص والجماعات وحرياتهم وأمنهم القضائي، وتطبيق القانون. كما ينص على ذلك الفصل 117 من الدستور.

أيتها السيدات و السادة،

إن تحقيق هذه الأهداف جميعا، لا يستلزم فقط احترام غايات و أهداف مشرعنا الدستوري من إحداث هيئات حماية حقوق الإنسان و النهوض بها، و التي تعتبر هيأة المناصفة و مكافحة كل أشكال التمييز من بينها و إنما يتطلب أيضا استحضار الملاحظات العامة للجنة الفرعية لاعتماد المؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان و التي تفسر مبادئ باريس المتعلقة بالمؤسسات الوطنية لحقوق الإنسان خاصة فيما يتعلق باختصاصات هيأة المناصفة و مكافحة كل أشكال التمييز و تأليفها و ضمانات استقلاليتها.

و الجدير بالتذكير أن المجلس الوطني لحقوق الإنسان في رأيه الاستشاري الموجه إلى مجلس النواب قد ذكر بشكل مستفيض بهذه الملاحظات العامة.   

أيتها السيدات و السادة،

و لأن مجلس المستشارين سيناقش بعد أيام قليلة مشروع القانون رقم 79.14 المتعلق بهيئة المناصفة ومكافحة التمييز  ، فإني أتمنى أن تتمكن أشغال يومكم الدراسي من تقديم عناصر إجابة على أربع أسئلة أساسية :

  • كيف يمكن تكريس الطبيعة الدستورية للهيئة بوصفها من هيئات حماية حقوق الإنسان والنهوض بها  والابتعاد بالهيئة عن الخطاطة المؤسساتية لهيئات النهوض بالتنمية البشرية والتشاركية والمستدامة والديمقراطية التشاركية، و ذلك عبر إعادة صياغة اختصاصات الهيأة في مجال الحماية و الوقاية من التمييز و نمط تأليفها؟

  • كيف يمكن تكريس تلاؤم اختصاصات وتأليف الهيأة مع المبادئ المتعلقة بمركز المؤسسات الوطنية لتعزيز وحماية حقوق الإنسان المسماة مبادئ باريس باعتبار هيأة المناصفة ومكافحة كل أشكال التمييز مؤسسة وطنية لحقوق الإنسان ذات ولاية متخصصة في مجال مكافحة التمييز المبني على أساس الجنس؟   

  • كيف يمكن تكريس التكامل بين عناصر المنظومة الوطنية لحماية حقوق الإنسان، خاصة فيما يتعلق بمكافحة التمييز ؟

  • كيف يمكن تقوية المقتضيات القانونية المتعلقة بضمان استقلال الهيأة خاصة عبر اقتراح مراجعة تأليفها ونمط تعيين أعضائها؟