كلمة الأستاذ حكيم بن شماش، رئيس مجلس المستشارين في اللقاء الدراسي المنظم حول موضوع: "قراءة في مشروع القانون التنظيمي رقم 15 .86 المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون". المنظم من طرف فريق العدالة والتنمية بتعاون مع "العصبة المغربية لحقوق الإنسان" و"منتدى الكرامة لحقوق الإنسان".
الأربعاء 25 أكتوبر 2017 بمقر مجلس المستشارين.
السيد رئيس فريق العدالة والتنمية المحترم؛
السيد وزير العدل المحترم؛
السيدات والسادة أعضاء المجلس المحترمون؛
السادة الأساتذة الأجلاء
السيدات والسادة الحضور الكريم؛
يسرني أن أتناول الكلمة للمساهمة معكم في أشغال هذا اللقاء الدراسي الذي ينظمه فريق العدالة والتنمية المحترم بتعاون مع "العصبة المغربية لحقوق الإنسان" و"منتدى الكرامة لحقوق الإنسان" حول موضوع "قراءة في مشروع القانون التنظيمي رقم 15 .86 المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون".
وبالنظر لكون مناقشة مشروع القانون التنظيمي هذا يكتسي قيمة وأهمية قصوى باعتباره جزاءا من الكتلة الدستورية واستكمال للمتن الدستوري.
وإيمانا منا، بالأهمية الخاصة والمشروعة للقضاء الدستوري الذي أصبح خلال العقدين الأخيرين إحدى المحددات الأساسية لدولة القانون، وبالأثر البنيوي لتوسيع طرق الولوج إلى القضاء الدستوري على حماية وتعزيز حقوق الإنسان والنهوض بها؛
وحيث إن مشروع القانون التنظيمي المتعلق بهذا الموضوع بلغ مرحلة متقدمة بعد المصادقة عليه من طرف مجلس النواب، وسيشرع مجلسنا الموقر في دراسته ومناقشته خلال هذه الدورة، فإنني أود المشاركة ببعض الأفكار التي أرى ضرورة التعبير عنها في بداية أشغال لقاءكم الدراسي هذا.
حضرات السيدات والسادة؛
كما لا يخفى عليكم لقد ظل المغرب، ومنذ الحصول على الاستقلال، يعمل فقط بنظام الرقابة الدستورية القبلية ذات الطابع السياسي التي كانت محصورة على جلالة الملك وعدد من الفاعلين السياسيين(رئيس الحكومة ورئيسي مجلسي البرلمان وخمس أعضاء مجلس النواب وأربعين بمجلس المستشارين ).
لذلك تظهر التجربة المغربية ،في مجال الدفع بعدم الدستورية، متأخرة جدا بالمقارنة مع العديد من الدول، إلى أن جاء دستور 2011 الذي تضمن مجموعة من القواعد والمبادئ التي تهدف إلى تكريس دولة الحق والقانون التي يتمتع فيها الجميع بالحقوق والحريات، وفق ما تنص عليه المواثيق الدولية ومبادئ حقوق الإنسان كما هي متعارف عليها دوليا ، ومنح من خلال مقتضيات الفصل 133، حقا دستوريا جديدا لم تكن تنص عليه الدساتير السابقة، يتمثل في الدفع بعدم دستورية القانون، بمناسبة رفع الدعاوي أمام المحاكم المغربية، كمحاولة منه لتكريس الديمقراطية الشبه مباشرة.
وفي سياق تنزيل هذا المقتضى الدستوري، وطبقا أيضا للمادة 28 من القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية، صادق مجلس النواب مؤخرا على مشروع القانون التنظيمي رقم 15 .86 المتعلق بتحديد شروط وإجراءات الدفع بعدم دستورية قانون". وسيشرع مجلسنا الموقر في مناقشته ودراسته خلال هذه الدورة.
حضرات السيدات والسادة؛
يعتبر مبدأ الدفع بعدم دستورية القوانين،في منظومتنا القانونية آلية جديدة للرقابة البعدية على القوانين التي كانت تعرف فراغا دستوريا في تنظيم هذه الرقابة، فهذه الآلية وهذا النوع من الاختصاص يشكل أسلوبا يحول دون إصدار قوانين تخالف الدستور، كما أنه يعتبر ثورة حقيقية في النظام الدستوري المغربي. إذ سيصبح من حق كل من له الصفة الدفع بأن القانون، الذي سيطبق عليه أمام المحاكم، يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها له الدستور.
إن هذه الآلية تعطي حقا جديدا يمكن المتقاضي من الدفاع عن حقوقه المضمونة دستوريا، من خلال تيسير وتوسيع طرق اللجوء إلى القضاء الدستور، وخصوصا بعد الارتقاء بالمجلس الدستوري إلى محكمة دستورية مع منحها اختصاصات واسعة.
كما أنها تسمح بتجاوز الإطار الضيق للمراقبة القبلية والنواقص المرتبطة بها، والمتمثلة في كونها مراقبة مجردة وإثارتها محصورة في الدائرة السياسية.
كما ستعمل على تصفية وتنقيح المنظومة التشريعية السارية النفاذ وتطهيرها مما قد يشوبها من مقتضيات غير دستورية، وبالتالي تسمح بإشراك المواطنين بطريقة غير مباشرة في عملية التشريع.
وتحقق هذه الآلية، أيضا، مبدأ سمو القاعدة الدستورية في النظام المعياري الداخلي، بجعل القاعدة الأدنى درجة تطابق القاعدة الأعلى درجة.
وقد جاء في خطاب جلالة الملك محمد السادس،حفظه الله وأيده، يوم 17 يونيو 2011 بمناسبة انتهاء أشغال اللجنة الاستشارية لتعديل الدستور وتحديد الفاتح من يوليوز تاريخا للاستفتاء مايلي:
"...وتأكيدا لمبدأ سمو الدستور والقانون، تم الارتقاء بالمجلس الدستوري إلى محكمة دستورية ،ذات اختصاصات واسعة، تشمل، علاوة على صلاحياته الحالية،مراقبة دستورية الاتفاقات الدولية، والبت في المنازعات بين الدولة والجهات.
وتعزيزا للديموقراطية المواطنة، تم تخويل هذه المحكمة صلاحية البت في دفوعات المتقاضين بعدم دستورية قانون تبين للقاضي أن من شأنه المساس بالحقوق والحريات الدستورية" .انتهى خطاب صاحب الجلالة.
حضرات السيدات والسادة؛
يعتبر هذا النوع من الآليات شكلا من أشكال انفتاح القضاء الدستوري على المواطن، وتجاوزا للثقافة القانونية المؤسسة على سيادة القانون وتعبير البرلمان عن الإرادة العامة. وهو نتاج ومواكبة لمسار التطور الدستوري في الدول الديموقراطية، وتكريس لضمان سمو الدستور في النظام القانوني وتوسيع لصلاحيات المحكمة الدستورية.
إن هذه الآلية الجديدة ستجعلنا ننتقل من نظام المراقبة القبلية للدستورية إلى نظام جديد يجب أن تتعايش داخله المراقبة القبلية والبعدية، لذلك من شأن هذا المشروع أن يعمل على تقوية الرقابة على دستورية القوانين من خلال أشكالها المختلفة القبيلة والبعدية، ويعتبر بمثابة آلية أساسية للمساهمة في ضمان حماية واحترام النص الدستوري .
إن الغاية من تقرير مبدأ الرقابة على دستورية القوانين، هو تأكيد مبدأ سمـو الدستور، لأن ما يحتويه الدستور من مبادئ تتعلق بالحقوق والحريات العامة، قررت لمصلحة الأفراد في مواجهة السلطتين التشريعية والتنفيذية، لذلك يصبح هؤلاء الأفراد من أكثر المستفيدين من تقرير مبدأ الرقابة على دستورية القوانين،
ويشكل إقرار هذا الحق تحولا نوعيا لتحقيق "عدالة دستورية مواطنة" مما يجعل المواطنين في قلب معركة تحصين حقوقهم وحرياتهم بما يترتب عن ذلك من إشاعة ثقافة مجتمعية تتفاعل مع القضاء الدستوري بشكل إيجابي ويكرس وعي المواطن بحقوقه والتزاماته وتعزز بالتالي الديموقراطية المواطنة.
حضرات السيدات والسادة؛
تجدر الإشارة إلى أنه في بعض التجارب المقارنة، كفرنسا مثلا، لم يكن إقرار هذا الحق دستوريا فيها بالأمر السهل بل كان نتاج مسار تاريخي طويل ومعقد من التفكير والنقاش، وبعد إنضاج لمجموعة من المشاريع التعديلية التي أجهضت على امتداد عدة سنوات(أكثر من 18 سنة)، ولم تتم دسترته إلا بعد نضجه وفي سياق سياسي سمح بذلك(تعايش الأغلبيات الموجودة في قصر الإيليزي ومجلسي البرلمان ) ، بل حتى إن تفعيله وتنزيله لم يكن بالسهولة والبساطة بل كانت هناك حرب للمواقع بين المحاكم العليا (محكمة النقض ومجلس الدولة) والمجلس الدستوري في فرنسا.
وإذا كان المشرع الدستوري المغربي لم يحسم من خلال الدستور في المداخل الكبرى لأجرأة هذه الآلية فإن هذا المشروع عمل على تبني خيارات تبقى قابلة للنقاش وللمفاضلة مابين أحسنها وأكثرها قابلية للتطبيق والتنزيل بشكل فعال وسليم في إطار السقف السياسي والدستوري الوطني؛
حضرات السيدات والسادة؛
لقد ورد الفصل 133 المنظم لمسألة الدفع بعدم الدستورية في الباب الثامن المتعلق بالمحكمة الدستورية، بعد الباب السابع الخاص بالسلطة القضائية الذي حدد عددا من الضمانات المخولة لكل من القضاة والمتقاضين، وعلى رأسها ما تضمنه الفصل 120 منه، الذي ينص على الحق في المحاكمة العادلة والأجل المعقول لإصدار الأحكام، ومن ثمة فإن النجاح في تفعيل هذه الآلية القانونية رهين بالموازنة بين الغاية من إقرارها، وعدم استغلالها كمطية لتأخير البت في القضايا وتعريض مصالح المتقاضين للتعطيل والتسويف.
وحيث إنه من الثابت قانونا وقضاء أن أحكام الدستور مترابطة في شموليتها،فإن البحث عن الخيط الرفيع في المعادلة السابقة حاضر في مشروع القانون التنظيمي موضوع هذا اللقاء الدراسي،سواء في الصيغة الأولى للمشروع عند وضعه لدى مجلس النواب، أو بعد تعديله وإحالته إلى مجلس المستشارين، من خلال محاولة الجمع بين مبدأ التقاضي بحسن نية ومبدأ الفعالية في البت في المنازعات، عبر وضع عدد من المساطر المقيدة بمجموعة من الآجال.
واسمحوا لي في هذا الإطار أن ألفت الانتباه، بشكل مختصر، إلى بعض الإشكالات والقضايا التي قد يطرحها المشروع وواجهت قبله مختلف التجارب المقارنة، والتي تم التطرق إليها، بشكل مستفيض، أثناء مناقشته أمام لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان بمجلس النواب، وجاءت أيضا في أرضية هذا اللقاء الدراسي على شكل تساؤلات، وتطرقت إليها قبل ذلك مذكرة المجلس الوطني لحقوق الإنسان المتعلقة بالقانون التنظيمي للدفع بعدم الدستورية، من قبيل:
- مفهوم الحقوق والحريات( طبيعتها ونطاقها)؛
- مسطرة الدفع بعدم الدستورية والمعنيين بإثارتها وتحريكها وأثر قراراتها؛
- الشروط الواجب توفرها لتقديم الدفع ؛
- العناصر المعتمدة لتقدير جدية الدفع بعدم الدستورية؛
- النصوص التشريعية المعنية بمسطرة الدفع ؛
- نظام التصفية وما سيترتب عنه من آثار وتداخل في الاختصاص؛
- الآجال بالنسبة للإجراءات وبالنسبة للبت في الدفع المقدم؛
- ضمانات المحاكمة العادلة؛
- المساطر والآليات والموارد البشرية التي تتوفر عليها المحكمة الدستورية لكي تتمكن من التطبيق الجيد والفعلي
للإطار القانوني لهذا الحق الدستوري....إلخ
حضرات السيدات والسادة؛
إن اختيار أي نموذج ينبغي أن يجد مبررات له تستمد من الواقع الوطني، والإمكانيات المتوفرة، وتوزيع الاختصاص بين القضاء الدستوري والقضاء العادي، وكذا عدد النصوص المتوقع الطعن فيها.
لذلك فإن هذا اللقاء الدراسي يشكل مناسبة مهمة ندعوكم فيها إلى طرح وتعميق النقاش حول الإشكالات والصعوبات التي قد يطرحها تنزيل الفصل 133 من الدستور، من أجل فهم جيد وتطوير لمشروع القانون التنظيمي الذي بين أيدينا بالنظر إلى الآثار المحتملة لهذا المشروع على عدة مجالات متعددة، وحتى يكون بالفعل قانونا أكثر فعالية ويحمي الحقوق والحريات، ولكي نجعل منه بالفعل مكسبا لتحقيق ديموقراطية حقيقية؛
ويجب استحضار كل العوائق التي يمكن أن تعطل أو تعرقل تفعيل هذا الحق في سياق التجربة المغربية الحالية. والمحافظة على الغايات الأصيلة التي كانت وراء دسترة هذه الآلية، وتجاوز الصراع الذي قد ينشأ بين المحكمة الدستورية والسلطة القضائية ومحاولة رسم حدود تحرك كل فاعل لتفادي تحويل المحكمة الدستورية إلى محكمة أعلى، وانجرار عمل القضاة إلى مراقبة دستورية القوانين.
كما نؤكد على أن هذا المشروع، وغيره من المشاريع الأخرى، لن يكون له تأثير كبير ولا إضافة حقيقة إذا لم يتم تعزيز الثقة في المؤسسات واحترام قرارات القضاء وأحكامه.كما يجب أن يوفق بين الغاية من التنصيص عليه والمتمثل في صيانة الدستور والذي من شأن تطبيقه إحداث ثورة في المنظومة القانونية المتعلقة بالحقوق والحريات، وبين تحقيق الأمن القانوني وضرورة الحفاظ على فعالية النظام القضائي لضمان العدالة واحترام صدور الأحكام في آجال معقولة.
إننا مقتنعون بضرورة تعاون الجميع لأن هذا المشروع هو جزء من الكتلة الدستورية التي تستدعي تعاونا بما يخدم توسيع الحقوق والقراءة الإيجابية لمضمونه، والبحث عن توازن دقيق لأن الطموح هو توسيع الحريات ولكن ،في نفس الوقت، لابد من تحقيق النجاعة القضائية وتجويد القضاء. ولابد من توفير بنيات استقبالية ملائمة، والتدريب البيداغوجي على هذه المسطرة الجديدة والتحسيس بها، وملاءمة المدونات المسطرية والجنائية مع هذه الآلية.
بالإضافة إلى ذلك لابد من مواكبة الفقه لهذه المسطرة نقدا واقتراحا من أجل إيجاد أجوبة للأسئلة المطروحة والإشكالات التي يمكن أن تواجه التجربة المغربية.
هذه تلكم بعض الأفكار التي أريد تقسمها معكم على أن تتولى المداخلات اللاحقة التفصيل في مختلف الجوانب القانونية المرتبطة بالموضوع، لتكون إحدى المداخل الفكرية لترسيخ الجودة في هذا المشروع قانون التنظيمي، ولتعزيز الممارسة الديموقراطية والحقوقية ببلادنا.
وشكرا على إصغائكم وحسن الانتباه./.