الكلمة الافتتاحية للسيد رئيس مجلس المستشارين،
في الملتقى الإقليمي حول: القانون والاقتصاد الرقمي: الرهانات والتحديات وتسوية المنازعات"
المنظم من طرف المركز الدولي للوساطة والتحكيم بالرباط،
تحت رعاية السيد رئيس مجلس المستشارين و السيد رئيس الحكومة.
بمقر مجلس المستشارين يومي 15 و16 نونبر 2017
السيد رئيس الحكومة المحترم؛
سمو الأمير الدكتور بندر بن سلمان آل سعود، رئيس فريق التحكيم السعودي والرئيس الشرفي لمركز التحكيم التجاري لدول الخليج العربية، المحترم؛
السيد رئيس مجلس إدارة المركز الدولي للوساطة والتحكيم بالرباط، المحترم؛
السيد ممثل وزير العدل، المحترم؛
حضرات السيدات والسادة الخبراء والخبيرات في المجال القانوني والقضائي والاقتصادي والمعلوماتي، المحترمين والمحترمات ؛
في البداية يسعدني ويشرفني أن أرحب بكم، في مجلس المستشارين، الذي يرعى ويحتضن أشغال هذا الملتقى الإقليمي، حول " القانون والاقتصاد الرقمي: الرهانات والتحديات، وتسوية المنازعات"، المنظم من طرف المركز الدولي للوساطة والتحكيم بالرباط .
وكما تعلمون يكتسي موضوع هذا اللقاء أهمية قصوى لارتباطه بأحد التحديات التي تواجه البشرية جمعاء، وبلداننا على وجه الخصوص، نتيجة التطور التقني والانتشار السريع لتكنولوجيا المعلومات والاتصالات واستخدام الوسائل الإلكترونية الحديثة. وما أحدثه ذلك من تغيير استراتجي في طبيعة النشاط البشري بشكل عام، والاقتصادي منه ،على وجه الخصوص، نتج عنه إحداث تغييرات جدرية وجوهرية في مختلف بنيات الاقتصاد وطرق ووسائل تنفيذ الأنشطة الاقتصادية، وتفكيك الأشكال التقليدية. الشيء الذي أدى إلى ظهور نوع جديد من الاقتصاد، يطلق عليه تسميات عديدة منها "الاقتصاد الرقمي "، والذي يعبر عن توجه جديد ومستقبلي للعالم تكون فيه المعلومات الركيزة الأساسية للاقتصاد. و بالتالي أصبحنا اليوم أمام واقع مفروض علينا وملزمون بالانخراط فيه أحببنا أم كرهنا.
إن هذا النوع الجديد من الاقتصاد تتحول في إطاره المعرفة إلى شكل رقمي وتصبح من أهم السلع في المجتمع، وتعتمد على العقول البشرية بشكل رئيسي وعلى القوانين المواكبة سواء على مستوى التنظيم أو على مستوى إدارة المنازعات التي قد تنجم عن معاملات الاقتصاد الرقمي والتجارة الإلكترونية. مما يتطلب من الفاعلين الاقتصاديين والحكوميين وأصحاب القرار الاقتصادي والتشريعي والاستثماري معرفة كيفية الحصول على هذه المعرفة وتوظيفها بشكل جيد، وتجديدها والحرص على تطبيق تكنولوجيا حديثة كجزء أساسي من متطلبات إرساء الاقتصاد الرقمي.
حضرات السيدات والسادة؛
هناك إجماع اليوم على أن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات تعتبر عاملا أساسيا لتطوير مجتمع المعرفة ومحركا قويا للنمو والابتكار، ولا سيما من خلال ما تحققه من مردودية إنتاجية مرتفعة. وتؤكد كل الدراسات أن تكنولوجيات المعلومات والاتصالات تشكل أداة فعالة لتحقيق كل هدف من الأهداف الإنمائية للألفية، فيما يخص الحد من الفقر والصحة والتعليم . وبالتالي فهي يمكن أن تساهم بفعالية في التنمية البشرية،وتحسين الانسجام الاجتماعي ونمو الاقتصاد الوطني. بل الأكثر من ذلك فدرجة التقدم والتنمية،في جميع أنحاء العالم، رهينة بمدى الولوج إلى المعلومات واستخدامها الفعلي. والأمم المتقدمة والغنية تحقق مؤشرا مرتفعا بخصوص قدرتها على إنتاج واستخدام المعلومات. وللإشارة يمثل قطاع تكنولوجيات المعلومات 7 % من الناتج الداخلي الخام العالمي ويولد حوالي 25 % من النمو العالمي وأكثر من 60 % من مناصب الشغل في العالم الصناعي.
ومن جهة أخرى، تساهم أيضا هذه التكنولوجيات في التنمية من خلال تشجيع الحكامة الديمقراطية، لكونها تعزز الشفافية وتسهل الاستفادة من المعلومات وتتيح للمواطنين التعبير عن آرائهم بسهولة أكثر.
وإلى جانب كل هذا يجد أطراف المعاملات التجارية في شبكة الانترنت سهولة تحقق لهم عدة مزايا لا حصر لها أهمها، الربح المادي بتوفير الوقت والجهد والمال في إبرام العقود التجارية لتلك المعاملات عبر شبكة الانترنت والتي أصبحت تسمى التجارة الالكترونية. والتي تتسم بالسرعة في إبرام العقود وتنفيذها، بل إن مختلف أنواع التعاملات بين الأطراف المشاركة في هذه التجارة تتم اليوم بوسائل إلكترونية بدءا من تبادل المعلومات عبر البريد الإلكتروني بين المتعاملين، أو التفاوض التجاري، أو إصدار الفواتير إليكترونيا، أو التعاملات البنكية الإلكترونية، أو المتابعة الإلكترونية لعمليات التعاقد وتنفيذ الصفقات... الخ.
حضرات السيدات والسادة؛
إلى جانب هذه الصورة الإيجابية والجذابة فإن هذه التطورات التكنولوجية قد أثرت على العديد من جوانب المعاملات بين الأفراد، ذاتيين كانوا أو معنويين، ومنها بينها المساس بالمراكز القانونية، وأساس المسؤولية المدنية والجنائية، ونتج عن ذلك ما يعرف بالمعاملات الإلكترونية، مما أصبح يثر العديد من التساؤلات المتعلقة بهذا النوع من المعاملات (صفتها، تكييفها، كيفية حل المنازعات التي قد تنشأ عنها، القوانين الواجب تطبيقيها، ...إلى غير ذلك من الإشكالات).
كما ترتب عن ذلك ظهور أشكال كثيرة وجديدة من المنازعات المتعلقة بهذا النوع الجديد من المعاملات، مع تنامي حجم العقود المبرمة عن طريق الانترنت والتجارة الالكترونية، ولما يمثله اللجوء إلى القضاء من عبء كبير على المتعاقدين بواسطة شبكة الانترنت باعتبارها عقوداً عن بعد، وإشكالية القانون الواجب التطبيق عند حدوث النزاع، والخوف من فقدان التجارة الالكترونية لموقعها البارز الذي أصبحت تحتله في التبادل التجاري الدولي. مما أصبح معه من اللازم البحث عن كيفية وأنجع السبل وأكثرها ملائمة للحسم الفوري في منازعات هذا التجارة. وتبعا لذلك نشأت فكرة مايطلق عليه بالتحكيم الإلكتروني، أو التحكيم الرقمي كما يطلق عليه بعض فقهاء القانون، لتواكب النمو السريع للتجارة الالكترونية الذي يحتاج إلى آلية متطورة لفض المنازعات بالسرعة والدقة المطلوبة.
حضرات السيدات والسادة؛
إن الاهتمام بالإشكالات والقضايا التي يطرحها الاقتصاد الرقمي، سبقه الاهتمام بمواضيع وقضايا وإشكالات أخرى نتجت عن التطور التقني السريع الذي عرفه مجال تكنولوجيا الإعلام والاتصال، كموضوع الخصوصية وحماية الحياة الخاصة والمخاطر التي تهددها من جراء هذا التطور التقني، ثم الجرائم الإلكترونية وحماية الملكية الفكرية للمصنفات المعلوماتية وتحديدا البرامج، ثم مضامين المواقع الإلكترونية ومعايير ومواصفات ومقاييس الأمن المعلوماتي وموضوع الأثمنة البنكية والمالية. في حين برز أخيرا الاهتمام بموضوع التجارة الالكترونية الذي جاء لاحقا لكل هذه الموضوعات ومواكبا للمواضيع الأخيرة، وهذا ما أدى إلى ظهور التحكيم الإلكتروني، الذي أصبح يفرض نفسه بشكل متزايد نظرا لفاعليته وأهميته في فض المنازعات بطرق عصرية حديثة لم تكن معروفة فيما قبل لدى المتقاضين وحتى رجال القانون حيث يقع على عاتقهم عبء مواجهة هذا التطور المذهل في ثورة الاتصالات بما يتفق مع القواعد القانونية الملائمة والمواكبة للتطور الذي يعرفه مجال التحكيم عن بعد وما يرتبط به من إشكالات وخصائص قانونية تميزه عن التحكيم التقليدي.
ويعتبر موضوع التحكيم الإلكتروني من المواضيع الأكثر إثارة للجدل القانوني في وقتنا الحاضر،لما له من دور فعال في المنازعات الناتجة عن التجارة الإلكترونية . لذلك فإن الإجابة على السؤال الذي طرح في أرضية الملتقى لا يكن أن تتم إلا من خلال تحليل رهانات وتحديات التجارة الالكترونية ودور التحكيم الإلكتروني في حل المنازعات التي قد تحدث بسببها، فالتجارة الالكترونية تنطوي على عناصر وتثير تحديات في سائر الحقول والموضوعات المشار إليها سابقا.(أمن المعلومات ووسائل الدفع الالكتروني والملكية الفكرية والتعاقد الالكتروني والحجية والمعايير … الخ).
حضرات السيدات والسادة؛
كما لا يخفى عليكم فإن المغرب من البلدان التي انخرطت بقوة في هذه الثورة الرقمية، وهذا ما تؤكده الأرقام التي جاءت في التقرير السنوي الأخير، سنة 2015، للوكالة الوطنية لتقنين المواصلات بخصوص نسبة ولوج المغاربة لخدمات الهاتف النقال والانترنت. حيث اعتبر هذا التقرير سنة 2015، سنة الأنترنت المتنقل بامتياز، بحيث قاربت حظيرة المشتركين في خدمة الانترنت 14,5 مليون مشترك مع نهاية سنة 2015 ، كما بلغت نسبة النفاذ إلى %42 ,75 من الساكنة، ويمثل هذا رقما قياسيا. ويعزى هذا النمو إلى دينامية الأنترنت المتنقل الذي بلغت حظيرة المشتركين فيه قرابة 13,34 مليون مشترك ،خلال نفس السنة.
أما فيما يخص الهاتف المتنقل، فإن حظيرة المشتركين في هذه الخدمة استقرت حول 43 مليون مشترك عند متم سنة 2015 ،وبنسبة نفاذ قدرها %127,27 . نفس الدينامية القوية عرفها استعمال خدمات الهاتف المتنقل. ومع مجيء الرقمنة والتقارب بين الاتصالات والانترنت والمجهودات التي تبذلها السلطات العمومية لتقليص الهوة الرقمية، دخل القطاع في سلك نمو جديد مليء بالفرص والتحديات وكمثال على ذلك التحول الرقمي للمجتمع والاقتصاد الوطني.
وطبقا للتوجيهات السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس ،كما جاءت في خطابه بمناسبة عيد العرش بتاريخ 30 يوليوز 2008، فإن قطاع تكنولوجيات المعلومات يعتبر حاليا أحد القطاعات ذات الأولوية في الاقتصاد المغربي نظرا لمساهمته الفعالة في التنمية البشرية والاقتصادية. لذلك فإن الرهان بالنسبة للمغرب في قطاع تكنولوجيات المعلومات لا يقتصر على المحافظة فقط على المكتسبات، بل يتعلق الأمر على الخصوص بتمكين المغرب من الاندماج في الاقتصاد العالمي للمعرفة من خلال الإدماج المكثف والتعميم الواسع لتكنولوجيات المعلومات على مستوى جميع الفاعلين في المجتمع: الدولة والإدارات والمقاولات والمواطنين،ومواكبة ذلك بتوفير الإطار القانوني- والتنظيمي والمؤسساتي الملائم.
ولقد قامت بلادنا في هذا الإطار باتخاذ العديد من الإجراءات القانونية والتنظيمية والمؤسساتية لمواكبة اندماج المغرب في تطور تكنولوجيا المعلومات، أهمها إصدار القانون 53.05 المتعلق بالتبادل الإلكتروني للمعطيات القانونية وتنصيصه على التوقيع الإلكتروني (30 نونبر2007)، والقانون 08-09 ( 18 فبراير 2009) المتعلق بحماية الأشخاص الذاتيين تجاه معالجة المعطيات ذات الطابع الشخصي والذي أحدث اللجنة الوطنية لمراقبة حماية المعطيات ذات الطابع الشخصي، ثم المجلس الوطني لتكنولوجيات الإعلام والاقتصاد الرقمي(ماي 2009) الذي أنيطت به مهمة تنسيق السياسات الوطنية الهادفة إلى تطوير تكنولوجيات الإعلام والاقتصاد الرقمي وضمان تتبعها وتقييم تنفيذها. إضافة إلى العديد من المقتضيات القانونية الأخرى ذات الصلة بالموضوع والمتضمنة في عدد من النصوص القانونية (قانون المسطرة المدنية،قانون الشركات، القانون الجنائي، قانون الإرهاب...). كما نشير هنا إلى عدد من البرامج الحكومية الرامية إلى تأهيل بلادنا لمواكبة هذا التوجه العالمي من قبيل الحكومة الإلكترونية، وإستراتيجية المغرب الرقمي( الإستراتيجية الوطنية لمجتمع المعلومات والاقتصاد الرقمي2009- 2013) رغم ما يمكن أن يثار من ملاحظات وتساؤلات حول مدى تحقيقهما للأهداف المرسومة لهما، إضافة إلى مشروع المدونة الرقمية التي لم تر النور.
حضرات السيدات والسادة؛
في ظل هذه التطورات التي عرفها مجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وما يثيره ذلك من قضايا ومنازعات وإشكالات فإننا نعتبر هذا الملتقى، أولا، فرصة للوقوف على الرهانات والتحديات التي تواجه الاقتصاد الرقمي في بلداننا وذلك في ظل الاختلافات والتباينات التشريعية والتنظيمية. وثانيا، مناسبة للبحث عن الحلول القانونية والعلمية المقترحة لكسب الرهانات ومواجهة التحديات، وأيضا لإبراز دور القضاء والتحكيم والوساطة الإلكترونية في تسوية منازعات الاستثمار والاقتصاد الرقمي والتجارة الدولية.
لذلك فإن توفير الإطار القانوني والتنظيمي المناسب أصبح ضرورة ملحة لتوفير بيئة مناسبة، سواء بإدخال تعديلات على القوانين القائمة بشكل يجعلها تستجيب بشكل أكبر للمتطلبات التي يفرضها تطور الاقتصاد والاستثمار الرقمي والتجارة الإلكترونية لحماية البيانات والمعاملات الإلكترونية للفاعلين في القطاع، أو تبني قوانين متخصصة لتنظيم مختلف جوانب هذا الاقتصاد الجديد، ابتداء من إنشاء المواقع على شبكات الاتصال الإلكترونية وتسجيل عناوينها، ونظم التعاقد الإلكتروني وإثباته، وإجراءات تأمينها، وصولا إلى نظم الأداء، وضمانات تنفيذ التعاقدات وحماية المستهلك في المعاملات الإلكترونية، وحقوق الملكية الفكرية، والمعاملة الضريبية والجمركية للمعاملات الإلكترونية، ثم تحديد الاختصاص القضائي بمنازعات عقود التجارة الإلكترونية، وغيرها من القضايا والإشكالات التي يطرحها هذا التطور التكنولوجي...
و شكرا على الإصغاء، وأشغال موفقة لهذا الملتقى الذي نتمنى أن تصدر عنه توصيات مهمة يمكن أن نأخذ بها كمؤسسة تشريعية.