تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

كلمة رئيس مجلس المستشارين في لقاء حول سياسات التقييم الوطنية في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

2018-11-29

حضرات السيدات والسادة

يتشرف مجلس المستشارين باحتضان هذا اللقاء ضمن المؤتمر الجهوي للتقييم الذي نتقاسم معكم القناعة، والذي يشكل فرصة ثمينة لتسليط الضوء على أهمية دور التقييم في التأثير على السياسات العمومية وإعادة توجيهها نحو الاتجاهات التي تخدم التنمية.

  هنا في المغرب توجد قناعة على أعلى المستويات، قناعة تتقاسمها جميع المؤسسات في البلد، قناعة بأهمية وملحاحيه وضرورة إخضاع السياسات العمومية والخطط والبرامج سواء كانت وطنية أو قطاعية أو ترابية للتقييم المستمر، بغرض تجويدها وتطويرها، وبغرض تطوير نظام حكامتها، والتي يسميها إخواننا في المشرق "حوكمتها".

  وتتأسس هذه القناعة على رؤية عميقة عبر عنها جلالة الملك محمد السادس نصره الله، في مناسبات مختلفة، قناعة مفادها أن لا قيمة ولا أهمية للسياسات العمومية والبرامج والخطط إلا بمقدار ما تنتجه من آثار إيجابية على مستوى تغيير أوضاع الناس على نحو أفضل، ولذلك وتأسيسا على هذه القناعة والرؤية المتبصرة، عمد المغرب بمقتضى الوثيقة الدستورية الجديدة التي جرى الاستفتاء عليها في يوليوز سنة 2011، عمد المغرب إلى دسترة وظيفة تقييم السياسات العمومية.

وقد شكلت المصادقة على دستور 2011 لحظة هامة وحاسمة في مسار التقييم في المغرب، عبر إقراره لفكرة مهيكلة لكل البنية المؤسساتية تتمثل في ربط المسؤولية بالمحاسبة، وعبر دسترة وظيفة التقييم كصلاحية برلمانية أصيلة، حيث نص الفصل 70 من دستور 2011 في فقرته الثانية على أنه "يصوت البرلمان على القوانين ويراقب عمل الحكومة، و يقيم السياسات العمومية"، كما نص الفصل 101 على أنه "تخصص جلسة سنوية من قبل البرلمان لمناقشة السياسات العمومية وتقييمها".

  وتمت مواكبة هذا الانفتاح بدسترة عدد من مؤسسات وهيئات الحكامة التي باتت مؤهلة للقيام بدراسات تلقائية أو تستجيب لطلبات البرلمان في إبداء الرأي في مواضيع محددة تهم جوانب عديدة منها قضايا تقييم السياسات العمومية، وأيضا بدسترة آليات الديمقراطية التشاركية بشكل يسمح لمنظمات وجمعيات المجتمع المدني وللمواطنين بتقديم عرائض للسلطات العمومية وملتمسات قوانين للبرلمان، مما فتح مجالا أكبر لدعم وظيفة التقييم التي تقوت بشكل أكبر مع اعتماد قانون في غاية الأهمية، وهو قانون الحق في الولوج إلى المعلومات، هذا دون أن ننسى بأن اعتماد الجهوية المتقدمة في بلادنا أفسح المجال لإنزال التدبير من بعده الوطني إلى بعده المحلي من خلال فتح إمكانية التقييم أمام الجهات والمجالس الجهوية والجماعات الترابية المختلفة طبقا للدستور.

في نفس السياق عرف القانون التنظيمي لقانون المالية الذي نحن بصدد مناقشته الآن بمجلس المستشارين، تعديلات جذرية تميزت أساسا بتبني منهجية التدبير استنادا إلى النتائج، مما أحدث تغييرات جذرية في طريقة التصويت على مشروع القانون المالي التي انتقلت من التصويت على أبواب الميزانية إلى التصويت على برامج وضمنها على مهام محددة بشكل يسهل مهمة البرلمان في تتبع النشاط الحكومي بمختلف تفاصيله.

استنادا إلى ذلك انكب النظامان الداخليان لكل من مجلسي النواب ومجلس المستشارين على تفصيل ممارسة هذا الاختصاص الجديد الموكول للمؤسسة البرلمانية، أي اختصاص تقييم ومناقشة السياسات العمومية، وتبعا لذلك وتجسيدا لوعي المجلس الراسخ بالرهانات والتحديات التنموية الجسيمة، التي تواجه المواطنين من مختلف الشرائح خلال السنوات الأخيرة. واستنادا أيضا إلى المقتضيات الدستورية، السالفة ذكرها،  عكف مجلس المستشارين ابتداء من سنة 2015، على عقد جلسات عمومية لتقييم السياسات العمومية، ولحد الآن تم عقد ثلاث جلسات عمومية، منها جلسة عقدت في يوليوز 2015 خصصت لـ:

  • تقييم السياسات العمومية المتعلقة بالحكامة الترابية ومتطلبات التنمية الجهوية (يوليوز 2015).

وجلسة ثانية خصصت لـ:

  • تقييم السياسات العمومية المرتبطة بإنتاج الثروة (يوليوز 2016)

وجلسة أخرى خصصت لـ:

  • تقييم السياسات العمومية المتعلقة بالمرفق العمومي

ولأننا هنا في مجلس المستشارين مدركون بأن وظيفة البرلمان في إطار السياسات العمومية وظيفة كبيرة، تحتاج إلى خبرات وكفاءات وبنيات داعمة، فقد أقدمنا خلال الثلاث السنوات المنصرمة على إبداع آليات للوظيفة التقييمية التي يمارسها البرلمان، اذكر من بينها ما يلي:

ـ لدينا مركز للدراسات والأبحاث البرلمانية بمجلس المستشارين يشتغل على رصد برنامج أهداف التنمية المستدامة ودرجة حضورها في القنوات التي يمارس من خلالها البرلمان وظائفها التي يمارسها المجلس.  ونهيئ بفضل أطر وكفاءات المجلس، تقريرا سنويا يتضمن رصدا دقيقا لمدى اضطلاع المجلس بأدواره فيما يرتبط ببرنامج أهدف التنمية المستدامة.

ـ اعتمدنا كذلك مع عدد من المؤسسات الوطنية وفي مقدمتها المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، استراتيجية الانفتاح الواسع على المجتمع، تأسيسا على قناعة أن البرلمان الذي يدير ظهره لقضايا المجتمع غير جدير بحمل هذا الاسم، حيث نحرص على فتح أبواب المجلس لاحتضان النقاش العمومي والحوار المجتمعي التعددي في شأن قضايا كبرى ومفصلية تهم أسئلة وانتظارات المجتمع والسياسات العمومية.

ـ تم استحداث بدعم من مؤسسة ويستمنستر للديمقراطية وشركاء آخرين، نظام "المساعدين البرلمانيين" الذي يعتمد على استقطاب كفاءات من خارج المجلس لدعم ومرافقة البرلمانيين من اجل الاضطلاع بالمهام الموكولة لهم بمقتضى الدستور.

 

حضرات السيدات والسادة

إن هذه التجربة التي عرضت أمامكم خطوطها العريضة، تتأسس على فكرة نحاول ونجتهد من أجل ترسيخها، فكرة تثمين وظيفة تقييم السياسات العمومية، ليس كوظيفة دستورية فقط، ولكن كثقافة يجب أن تسود لدى كل الفاعلين السياسيين.

إن مجلس المستشارين، انطلاقا من هذه الرؤية، حرص ويحرص على المشاركة

مختلف المؤتمرات والمنتديات - الدولية والجهوية والوطنية – التي تتداول في موضوع التقييم، وآخرها الملتقى البرلماني العالمي للتقييم المنعقد في سيريلانكا خلال الفترة مابين 17 و 19 شتنبر 2018 تحت شعار" البرلمان المسؤول، تقييم خطة التنمية المستدامة لعام 2030".

كما يحرص المجلس على المشاركة في عدد من الورشات التكوينية المنظمة لفائدة كل من البرلمانيين والأطر، والملتقيات الدولية وعلى رأسها المؤتمر الفرنكفوني الدولي الثاني للتقييم المنعقد بمراكش يومي 13-14 نونبر 2016 تحت شعار التقييم في مواجهة التحديات الجديدة للتنمية، مستفيدا من الشراكات التي عقدها مع عدد من المنظمات الدولية وعلى رأسها مؤسسة وستمنستر للديمقراطية، والتي أسفرت على تكليف خبيرة من جامعة لوزان السويسرية بإعداد دليل مرجعي لقيادة عملية التقييم يحدد الشروط المرجعية، ويبين الأخلاقيات الواجب احترامها من لدن الجميع خلال عملية التقييم، وهو ما تكلل بانجاز دليل تقييم السياسات العمومية، الذي يتطرق بتفصيل لمختلف القضايا المتعلقة بتقييم السياسات العمومية، مع تخصيص حيز لمناقشة إمكانات مأسسته في مجلس المستشارين.

حضرات السيدات والسادة

إن الهدف الرئيسي لكل عملية تقييم، يتمثل في التحقق من سلامة التدخلات التنموية المختلفة، بما يضمن تحقيق نتائج تتماشى وأهداف التنمية عبر تقديم الأدلة الواضحة والصادقة والموضوعية التي تبين مدى فاعلية أو إخفاق السياسات التنموية المعتمدة، ومن تم القدرة على اتخاذ القرارات السليمة بشأنها.

وإلى جانب دورها في تقييم الاستراتيجيات والسياسات والبرامج الرامية إلى إعمال تنفيذ أهداف التنمية المستدامة، فإن البرلمانات باتت مدعوة إلى القيام بتقييم ذاتي للإجراءات التي يتم إعمالها من لدنها لقياس مدى فعاليتها استنادا إلى معايير واضحة كتلك التي حددها دليل البرلمانات وأهداف التنمية المستدامة-مجموعة أدوات للتقييم الذاتي-  الذي تم إعداده من قبل الاتحاد البرلماني الدولي وبرنامج الأمم المتحدة الانمائي. وهو تقييم أساسي من أجل التوفر على صورة واضحة تؤهل البرلمانات للإسهام في التقارير الطوعية التي تقدمها الدول أمام المنتدى السياسي الرفيع المستوى كآلية أوجدتها خطة 2030 لأجل تسهيل تحقيق أهداف التنمية المستدامة، علما بأن التقارير التي تتم صياغتها استنادا إلى حوار متعدد الأطراف، واعتمادا على الموضوعية والشفافية التي يوفرها التقييم تعتبر هي الأنجع.

نحن في الواقع محظوظين ونحن نجتهد للقيام بوظيفة التقييم التي جاء بها الدستور الجديد، لأنه لدينا العديد من المؤسسات الوطنية التي تنتج تقارير ودراسات باستمرار، تتضمن كنزا ثمينا من الملاحظات والتوصيات والاقتراحات. وفي هذا الإطار نشير إلى أن المغرب قد قدم تقريره الطوعي في يوليوز 2018 وقد شارك البرلمان في إعداده.

وأؤكد مجددا على أن تحقيق تقدم في التقييم وكذا في أهداف التنمية المستدامة يرتهن بفرص التنسيق بين الحكومات وصناعة التقييم في مجال أهداف التنمية المستدامة؛ ومدى نشاط المنظمات الطوعية للتقييم المهني، VOPEs وانخراطها بطريقة إستراتيجية وهادفة في المسارات الوطنية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة؛ وتصميم أنظمة وسياسات التقييم بطريقة تشاركية؛ وإشاعة ثقافة التقييم على المستويات المحلية؛ واعتماد ميكانيزمات واضحة للشراكة مابين الحكومات والبرلمانات والمنظمات الطوعية للتقييم المهني، وضمان اجراء حوار منتظم بينها.

وختاما، أجدد الترحيب بكم في مقر مجلس المستشارين متمنيا لأشغال مؤتمركم النجاح والتوفيق، وأننا نتطلع إلى ما ستسفر عليها أشغالكم من توصيات ومخرجات نقدر أنها ستكون مفيدة وثمينة لعملية التقييم حتى تحقق الأهداف المرجوة منها.

وشكرا على حسن إصغائكم