تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

كلمة السيد رئيس مجلس المستشارين خلال المنتدى البرلماني الدولي للعدالة الاجتماعية

2019-02-21

يسعدني في البداية أن أرحب بضيوفنا الكرام في فعاليات الدورة الرابعة من المنتدى البرلماني الدولي للعدالة الاجتماعية، الذي دأب مجلس المستشارين على تنظيمه منذ 2016 احتفالا باليوم العالمي للعدالة الاجتماعية، الذي يصادف كل يوم 20 فبراير، وذلك تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة نصره الله وأيده  والذي دعا مجلسنا الموقر ، في إحدى رسائله السامية التي وجهها إلى المشاركين في الدورة الثانية من هذا المنتدى في 20 فبراير 2017، إلى"متابعة مسار البناء التشاركي للنموذج المغربي للعدالة الاجتماعية عبر تنظيم حوارات ومنتديات واستشارات قطاعية وموضوعاتية مع كل الفاعليين المعنيين..."

ويبرهن انتظام انعقاد المنتدى البرلماني الدولي للعدالة الاجتماعية، على عزم مجلس المستشارين وشركائه المؤسساتيين، السير على نهج التفكير الجماعي والاقتراح البناء، خدمة لقضايا العدالة الاجتماعية، و مساهمة في مسلسل البناء التشاركي لمشروع النموذج التنموي وتحقيقا للغايات النبيلة المتوخاة من الاحتفال باليوم العالمي للعدالة الاجتماعية.

وفي إطار نفس النهج فقد قررنا في مكتب المجلس أن نخصص النسخة الرابعة لهذا المنتدى لموضوع يحظى بأهمية بالغة ويشكل، ضمن أوراش الإصلاح الهيكلية المطروحة على جدول أعمال بلادنا، أولوية قصوى ويتعلق الأمر ب "الحماية الاجتماعية بالمغرب برهانتها الثلاث الحكامة و الاستدامة والتعميم " لعدة اعتبارات منها :

أولا: الارتباط الوثيق للحماية الاجتماعية بالعدالة الاجتماعية ولكونها تعتبر مــن مكونــات السياســات العموميــة الراميــة إلــى إعمــال حــق أساســي مــن حقـوق الإنسان، ومـن تم المسـاهمة فـي توطيـد أواصـر التماسـك الاجتماعي والدفـع بعجلـة التنميـة الاقتصادية للبــلاد والاستقرار والتكافل.

ثانيا: الدعوة الملكية السامية، في الرسالة التي وجهها إلى المشاركات والمشاركين في النسخة السابقة من المنتدى، إلى التحلي بروح الابتكار والجدية والموضوعية من أجل البحث في إشكالية الفوارق الاجتماعية والمجالية وعلاقتها بالإكراهات المطروحة على أنظمة الحماية الاجتماعية، وأيضا دعوته السنة الماضية في خطاب العرش ".الحكومة وجميع الفاعلين المعنيين إلى القيام بإعادة هيكلة شاملة وعميقة، للبرامج والسياسات الوطنية، في مجال الدعم والحماية الاجتماعية، وكذا رفع اقتراحات بشأن تقييمها. مطالبا باعتماد مقاربة تشاركية، وبعد النظر، والنفس الطويل، والسرعة في التنفيذ أيضا، مع تثمين المكاسب والاستفادة من التجارب الناجحة".

ثالثا: إجماع مختلف الدراسات والتقارير والتشخيصات على ضعف وهشاشة وتعدد الاختلالات البنيوية لأنظمة الحماية الاجتماعية ببلادنا، مما يضفي على هذا الورش طابع الاستعجال والأولوية؛

رابعا: اندراج الموضوع في سياق تَبني فيه بلادنا نموذجا تنمويا جديدا، ستشكل فيه منظومة الحماية الاجتماعية آلية أساسية للتضامن، والقضاء على الفقر متعدد الأبعاد، وإعادة توزيع الثروة، وتحقيق التماسك الاجتماعي.   

حضرات السيدات والسادة؛

من المسلم به أن مفهوم الحق في الحماية الاجتماعية يرتبط بجوهر مبادئ وقيم العدالة الاجتماعية ويعتبر ترجمة لإعادة توزيع الثروة بشكل عادل من خلال استعمال الإنفاق العمومي لتمويل برامج تضمن للجميع الحق بالأمن الاجتماعي. وتضمن برامج الحماية الاجتماعية للأفراد استدامة حصولهم على الخدمات التي تساعدهم على تأمين مستوى عيش لائق وتحررهم من مخاطر الجوع والفقر وانعدام التغطية الصحية وعدم توفر خدمات تعليمية تمكنهم من تطوير قدراتهم الشخصية. بالتالي فإن الحق في الحماية الاجتماعية يعتبر أساسيا لضمان حصول الأفراد على حقوقهم الأساسية في الصحة والتعليم والعمل والحياة الكريمة.

إن الحمايــة الاجتماعية هــي الركيــزة الأساسية التــي يستحيل تصور انبثاق واستدامة عقد اجتماعي قوي ومستدام دون تحصينها وجعلها أولوية قصوى للسياسات العمومية.

وأتصور أننا لسنا بحاجة الى البرهنة على صحة الفرضية التي تشير الى انه بالنسبة لبلد يطمح الى تحقيق الإقلاع الاقتصادي واللحاق بركب الدول الصاعدة كالمغرب، فان إعادة بناء المنظومة الوطنية للحماية الاجتماعية في اتجاه تجاوز الاختلالات البنيوية التي تعاني منها وتحقيق مقومات الشمول والاستدامة هو أمر لا مفر منه، على اعتبار ان منظومة للحماية الاجتماعية بهذه المقومات سيكون لها تأثير إيجابي على تثمين رأس المال البشري و تحسين الإنتاجية، و ستسهم في الحد من التفاوتات الطبقية والمجالية، وإنهاء حلقة الفقر ومنع توارثها بين الأجيال وبناء القدرة على مواجهة الصدمات ، وبالنتيجة  في تحقيق الاستقرار السياسي والسلم الاجتماعي،. كما أن توسيع الحماية الاجتماعية يسهم في التعافي من الازمات الاقتصادية   وتحقيق التنمية الشاملة وصون كرامة المواطنات والمواطنين.

ومن باب التذكير فالحــق في الحماية الاجتماعية مكرس فــي عدد من الاتفاقيات الرئيسـية للأمـم المتحـدة ومنظمـة العمـل الدوليـة ومنظمـة الصحـة العالميـة. كمـا تدعمـه العديـد مـن المبـادرات المهمـة العابـرة للحـدود الوطنيـة، وآخرهـا كان فـي سـنة 2015 مـن خلال اعتمـاد أهــداف التنميــة المســتدامة الســبعة عشــر.

وللإشارة فالحماية الاجتماعية تعتبر مكونا أساسيا للإعلان العالمي لحقوق الانسان، حيث نصت المادة 22 منه على أنه" لكل شخص بصفته عضوا في المجتمع الحق في الضمان الاجتماعي، و أن تُوفَّر له، من خلال المجهود القومي والتعاون الدولي، وبما يتَّفق مع هيكل كلِّ دولة ومواردها، الحقوقُ الاقتصاديةُ والاجتماعيةُ والثقافيةُ التي لا غنى عنها لكرامته ولتنامي شخصيته في حرِّية" . كما أشارت إحدى فقرات المادة 23 منه وبصراحة إلى أنه و"لكلِّ فرد يعمل الحقٌّ في مكافأة عادلة ومُرضية تكفل له ولأسرته عيشةً لائقةً بالكرامة البشرية، وتُستكمَل، عند الاقتضاء، بوسائل أخرى للحماية الاجتماعية"

وأكد العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في المادة 9 منه على حق كل إنسان بالضمان الاجتماعي بما في ذلك التأمينات الاجتماعية، بالإضافة إلى الحق في العمل اللائق والرعاية الصحية للبالغين والأطفال (10،11،12).

كما تقع الحماية الاجتماعية تحت جملة من الاتفاقيات الدولية التي تضمن مجموعة من الخدمات الاجتماعية المرتبطة بتمكين المرأة والقضاء على كافة أشكال التمييز تجاهها ، اتفاقية حقوق الطفل، الاتفاقية الدولية لحماية حقوق العمال المهاجرين والاتفاقية الخاصة بحقوق المعاقين.

وتحظى نظم الحماية الاجتماعية بمكانة بارزة بين أهداف الأمم المتحدة للتنمية المستدامة. حيث يدعو الهدف الفرعي 1-3 من هذه الأهداف إلى "استحداث نظم وتدابير حماية اجتماعية ملائمة على الصعيد الوطني للجميع ووضع حدود دنيا لها، وتحقيق تغطية صحية واسعة للفقراء والضعفاء بحلول عام 2030."

 كما لا يجب أن ننسى معايير منظمة العمل الدولية بخصوص هذا الموضوع. ومنها التوصية رقم 202 بشأن الأرضيات الوطنية للحماية الاجتماعية في 2012 التي اعتمدها العاملون وأصحاب العمل والحكومات من جميع البلدان . وكذا تعاليق اللجنة المعنية بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وبالخصوص التعليق العام رقم 19 المتعلق بمجموعة أدوات الحق في الضمان الاجتماعي.

حضرات السيدات والسادة؛

يتيـح النقاش حول موضوع الحماية الاجتماعية، الذي لايـزال مسـتمراً فـي العديـد مـن البلـدان حـول هيكلـة أنظمتهـا الخاصـة والآثار المترتبـة عنهـا، التفكيـر فــي موقــع الحمايــة الاجتماعية فــي السياســات العموميــة، والمكانــة التــي تمنحهــا هــذه السياسـات للتماسـك الاجتماعي، ومـدى قـدرة هـذه الأخيرة علـى إرسـاء مبـدأ الإنصاف فـي إعـادة توزيـع الثـروة، وتوزيـع أعبـاء تمويـل الحمايـة الاجتماعية بيـن الضرائـب، والمداخيـل المتأتيـة مـن رأس المـال ومـن الثـروة وتلـك المسـتمدة مـن الشـغل. ويتيـح اسـتعراض الإطار المعيـاري والمفاهيمـي للحمايـة الاجتماعية توضيـح أبعـاد هـذا النقـاش وإغنائـه، فـي وقـت يشـهد فيـه النقـاش حـول النمـوذج التنمـوي للمملكـة زخمـا متناميـا، علـى إثـر التوجيهـات السـامية لجلالة الملـك محمـد السـادس، نصـره الله.

وكما لا يخفى عليكم، سهرت بلادنا منذ الاستقلال، على عهد الملكين الراحلين محمد الخامس والحسن الثاني طيب الله ثراهما، على بناء منظومة وطنية للحماية الاجتماعية من تعويض عن حوادث الشغل، وضمان اجتماعي، ونظام تعاضدي، وعلى نفس النهج شهد العهد الجديد بقيادة جلالة الملك محمد السادس إضافات نوعية استهدفت توطيد وتقوية واثراء هذه المنظومة، بإرساء نظام التغطية الصحية الأساسية وبإطلاق عدد من البرامج الهامة موجهة للدعم والحماية الاجتماعية.  

غير أن نموذج المنظومة الوطنية للحماية الاجتماعية، على أهمية مكتسباته، قد استنفذ حاليا مداه، وهو يوجد على عتبة تحديات جديدة، تتمركز اليوم في صلب تفكيرنا الجماعي في نموذجنا التنموي.  وبناء عليه فإن التحدي المنهجي الذي يواجهنا جميعا، يتعلق ببناء أرضية وطنية جديدة للحماية الاجتماعية كجزء من نموذجنا التنموي الجديد، وهي أرضية تتجاوز، من حيث أهدافها، ومداها وتدابيرها، برنامجا حكوميا لولاية واحدة،  أو رؤية قطاع وزاري، أو فاعل حزبي أو نقابي أو مهني. وبالتالي لا بد أن يكون أي تصور لنظام الحماية الاجتماعية قادر على تجاوز الاختلالات والإكراهات الحالية التي تحد من وقعه على المواطن وعلى التنمية البشرية والاجتماعية بصفة عامة. وتوجد بلادنا اليوم في مفترق الطرق، فمن أجل إرساء تنمية عادلة وشاملة، يتعين أن تتوفر على نظام حقيقي مندمج ومنسجم ومستدام للحماية الاجتماعية.

لذلك نعتبر أن التملك التقني والسياسي القوي لأي إصلاح لأنظمة الحماية الاجتماعية يقتضي إيجاد حلول من شأنها ضمان إعادة الهيكلة، وتحسين ومواءمة البرامج والسياسات الوطنية في مجال الحماية الاجتماعية، وذلك انسجاما مع التوجيهات الملكية السامية الواردة في خطاب العرش بتاريخ 29 يوليوز الماضي. 

كما تجدر الإشارة إلى أن إعادة هيكلة المنظومة الوطنية للحماية الاجتماعية، هي أولوية مرتبطة أيضا بالورش الذي يسهر جلالته على توجيهه وتتبعه والمتعلق بإعادة هيكلة منظومة الدعم الاجتماعي، ذلك أن توطيد وتحسين فعالية المنظومتين، هو أحد الأهداف الأساسية لنموذجنا التنموي قيد البناء، في جوانبه المتعلقة بحماية وإدماج الفئات الهشة، وإعادة توزيع الثروة، وتحقيق الغايات النبيلة للتضامن بين الفئات والأجيال والتضامن المجالي، والتماسك الاجتماعي.

وبناء عليه فإن اعتماد هذه الرؤية، هو الذي سيمكن من ضمان الطابع الفعلي للأهداف المنصوص عليها في تصدير الدستور من "إرساء دعائم مجتمع متضامن"، يتمتع فيه الجميع ب"العدالة الاجتماعية"، كما سيمكن من تحقيق الالتزام الإيجابي للدولة والمؤسسات العمومية والجماعات الترابية بالعمل على تعبئة كل الوسائل المتاحة، لتيسير أسباب استفادة المواطنات و المواطنين على قدم المساواة من الحق في الحماية الاجتماعية، على النحو المقرر في الفصل 31 من الدستور، وسيتيح وضع أرضية فعالة للسياسات العمومية الموجهة للفئات الهشة المشار إليها في الفصل 34 من الدستور.       

وندعو المشاركات و المشاركين، إلى أن يستحضروا في سياق مناقشاتهم، التوجيهات المنهجية  الواردة في التوصية رقم 202 التي أقرها مؤتمر العمل الدولي في سنة 2012، بشأن الأرضيات الوطنية للحماية الاجتماعية، لا سيما منها التوجيهات المتعلقة بشمولية الحماية و توسيع نطاقها، وملاءمة الإعانات، وعدم التمييز و المساواة بين الجنسين، ودمج الأشخاص العاملين في الاقتصاد غير المهيكل، والإنجاز المتدرج، والابتكار في آليات التمويل من أجل ضمان الاستدامة المالية و الضريبية و الاقتصادية للمنظومة.

كما ندعو ضمن نفس الإطار، إلى أن ينصب التفكير بالأولوية على السبل العملية لتجاوز الثغرات الحالية للمنظومة الوطنية القائمة للحماية الاجتماعية، و من بينها ، بل وفي مقدمتها أن  هناك حاليا – حسب العرض الذي تقدم به السيد الوزير المنتدب لدى رئيس الحكومة المكلف بالشؤون العامة والحكامة،  خلال اجتماع مجلس الحكومة المنعقد يوم 20 دجنبر 2018 ، أياما قليلة بعد المناظرة الوطنية الأولى للحماية الاجتماعية التي تم تنظيمها بالصخيرات يومي 12و13 نونبر 2018 ، والتي لم نتوصل كبرلمان، بالمناسبة ،  بمخرجاتها وتوصياتها كما يقتضي منطق التعاون والتكامل بين المؤسسات- " حوالي 140 برنامجا مصمما ومنفذا بشكل مستقل عن بعضها البعض، بطرق استهداف وآليات حكامة مختلفة؛ لكن، يضيف الوزير، هناك مشاكل يجب معالجتها منها ما يتعلق بتعدد المتدخلين وقصور في التنسيق فيما بينهم، وتعقد المساطر الإدارية وشروط الاستفادة؛ وضعف مساهمة الجماعات الترابية في تصميم وتمويل وتنفيذ برامج الحماية الاجتماعية".

بالاضافة الى الاعطاب المسجلة على مستوى نظام حكامة هذه البرامج والثغرات المرتبطة بالاستهداف والتحديات المتعلقة بالتمويل والاستدامة  ،هناك اختلالات بات من المستعجل معالجتها لأنها تشكل، كما هو ملاحظ في الواقع، أساس المطالبات المشروعة المعبر عنها من قبل مختلف فئات الشعب المغربي، من أجل الولوج الفعلي إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، و يتعلق الأمر على الخصوص بالثغرات الملاحظة على مستوى منظومتي الرعاية الصحية والدعم الاجتماعي للفئات الفقيرة والهشة، وعلى مستوى دمج الاقتصاد غير المهيكل. وهي جميعها قضايا مترابطة .

وفي سياق ذي صلة ، لا يفوتنا أيضا أن نثير انتباه مختلف أطراف الحوار الاجتماعي من حكومة، ومشغلين ومنظمات نقابية إلى ضرورة إيلاء قضايا إعادة بناء الأرضية الوطنية للحماية الاجتماعية، المكانة التي تستحقها، ضمن أولويات الحوار المذكور، مساهمة من جميع أطراف العملية الإنتاجية في ابتكار حلول ناجعة، ملائمة لوضعنا الاجتماعي والاقتصادي، وضامنة لتحقيق مختلف الأهداف التي ذكرنا بها.  

تلكم، حضرات السيدات والسادة، القضايا التي نقدر أنها تستحق أن نعمق النظر فيها، بنفس وطني يعلو ويتجاوز المنطق الحزبي والنقابي الضيق.

وفي الأخير أشكر الجميع  على المشاركة والمساهمة الايجابية في إنجاح أشغال هذا المنتدى الذي ننتظر منه أن يقدم مساهمة نوعية من خلال مقاربته بشكل موضوعي للإشكاليات والأسئلة العميقة المرتبطة بالحماية الاجتماعية في بلادنا. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى.