السيد حكيم بن شماش رئيس مجلس المستشارين
ورئيس الوفد البرلماني المغربي
ورقة الوفد المغربي في الحوار رفيع المستوى لرؤساء البرلمانات المشاركين في الجمعية 140 للاتحاد البرلماني الدولي المتعلقة بموضوع
"تدني الثقة في النظام الديمقراطي" - نداء عاجل لإعادة التفكير في نماذج حكامتنا
8 أبريل 2019
السيدات والسادة الأعزاء،
يطيب لي – بصفتي ممثلا لبرلمان بلادي المغرب - أن أشارك في هذا الحوار حول موضوع "تدني الثقة في الديمقراطية" اليوم، من أجل بلورة نداء عاجل لإعادة التفكير في نماذج حكامتنا. ومصدر سعادتي بهذه المشاركة يعود إلى أهمية الموضوع المقترح لحوارنا، وكذا إلى عراقة الاتحاد الذي ننتمي إليه "الاتحاد البرلماني الدولي" الذي يناهز عمره 130 سنة ويعتبر إحدى أقدم الهيئات الدولية قاطبة.
السيدات والسادة،
قد لا يختلف اثنان اليوم في تقدير مدى الضبابية وحالات عدم اليقين التي أصبحت تلف النموذج الديمقراطي عبر العالم.
لقد عرفت دول كثيرة في العشرية الأخيرة من القرن الماضي موجة تبني النظام الديمقراطي بعد فترات تاريخية عرفت خلالها أنظمةً سُميت بالشمولية أو الديكتاتورية اليمينية أو اليسارية بحسب تموقع المتابعين لتطور الأنظمة السياسية في العالم. عاشت هذه البلدان، سيرا على خطى من سبقوها إلى تأسيس النموذج الديمقراطي أو تبنِّيه، عاشت فترات انتقال نجحت إلى هذا الحد أو ذاك - تبعا لدرجة الحكمة التي توفرت لفاعليها السياسيين - في تجاوز مخلفات غياب الديمقراطية بين ظهرانيها في الماضي.
وذهب اليقين إذاك إلى أن هذا الانتقال يُعد مؤشرا على مرور الأسرة الدولية إلى مرحلة تاريخية جديدة علقت عليها آمال قوامها انطلاق البلدان المعنية بالانتقال الديمقراطي بهمَّة عالية للِّحاق بمن سبقوها في نفس السبيل من أجل ترسيخ النظام الديمقراطي كنظام مرجعي لا تراجع فيه عن الثوابت المؤسِسة المتمثلة في قيمها ومؤسساتها وآلياتها الديمقراطية.
غير أن هذا التصور- الأمل سرعان ما بدأ يخبو بالنظر إلى التطورات والتوترات التي عرفتها الساحة الدولية، وكذا التحولات التي عرفتها العديد من البلدان الملتحقة بالنموذج الديمقراطي بل وحتى المؤسسة له.
إن من يراقب التحولات المسجلة في العالم عموما كمناخ مساعد على بناء وترسيخ النموذج الديمقراطي، كما في مجال اشتغال العديد من الأنظمة المصنفة ديمقراطية على وجه الخصوص، لا بد أن يسجل بقلق عددا من الظواهر السلبية، الجديد منها والقديم، التي لم تتوفق التحولات في وضعها على السكة الصحيحة، والتي من شأنها إرباك الديمقراطيات الناشئة، بل حتى أكثر المشاريع الديمقراطية جدية وعزما.
أولا: استمرار تراكم المعرفة والثروة والنفوذ في مناطق دون غيرها من المعمور مما يعزز الاعتقاد بكون العالم، رغم ما تم التبشير به سابقا، يعجز تماما عن إنشاء منظومة أكثر عدلا بين شعوب وبلدان الأسرة الدولية،
ثانيا: استمرار التوترات الجيوسياسية واستحداث غيرها بعد أن رسخ الاعتقاد لحظة بكون البشرية دخلت عصرا جديدا بعيدا عن التطاحنات التي عرفتها الحرب الباردة غداة الحرب العالمية الثانية، ضمن ما أطلق عليه النظام العالمي الجديد في نهاية القرن الماضي،
ثالثا: تفاقم ظاهرة الهجرة السرية كنتائج للتوترات الجيوستراتيجية والحروب الأهلية المحلية إضافة إلى تفكك الاقتصاديات الوطنية وارتباك التماسك المجتمعي، في مناطق عديدة من العالم وخاصة إفريقيا،
رابعا: تبعات التحولات المناخية المنذرة بأوخم العواقب، فيما تنكص بعض الدول الكبرى عن تحمل مسؤولياتها الأخلاقية تجاه تفاقم ظاهرة أصبحت تهدد البشرية بأكملها.
إن هذه التحولات على المسرح الدولي، على سبيل المثال لا الحصر، تتداخل مع ظواهر أخرى خاصة بكل بلد على حدة.
أولا: تنامي الطلب الاجتماعي في مختلف البلدان، خاصة تلك التي عرفت انفتاحات لبرالية محدودة فيما ظل الدخل الفردي ضامرا لا يساير حاجيات الأجيال الجديدة المتعلمة والمشبعة بآثار الثورة التواصلية الرقمية،
ثانيا: تصاعد البطالة وخاصة بين فئة الشباب داخل البلدان المتوجهة نحو تبني النموذج الديمقراطي، مما يربك السياسات العمومية المتعلقة بالشغل والتعليم والصحة والسكن...
ثالثا: استمرار هامشية دور المرأة وضعف إمكانياتها في الولوج إلى مؤسسات ومراكز القرار. فعلى الرغم من التقدم الحاصل في مجال مشاركة المرأة في ديناميات التنمية والاقتصاد، فإن ولوجها إلى المؤسسات المنتخبة وإلى المسؤوليات الحكومية ذات صلاحيات التقرير لا زالت محدودة للغاية حتى في بلدان سابقة إلى النموذج الديمقراطي، ناهيك عن البلدان التي تخطو خطواتها الأولى في الميدان. مما يبقى معه الأمر بعيدا عن الأهداف التي نتوق إليها أي 50/50. إن العجز أو التأخر في إدماج المرأة في مختلف هذه المستويات من المسؤولية يشكل عامل كبح لكل مشاريع التنمية والدمقرطة،
رابعا: الثورة التواصلية الرقمية المتميزة بسهولة الحصول على المعلومة وبقدرة فئات واسعة من المجتمع – غير المؤطَّرة في الغالب - على التأثير في الفضاء العمومي بشكل غير مسبوق وعلى توجيه الرأي العام بقوة رغم طابعها العابر،
الخطر المحدق: الشعبوية.
إن كل هذه العوامل – أو بعضها - مجتمعة ومتداخلة قد أدت إلى ظهور حركات سياسية واجتماعية في العديد من البلدان شمالا وجنوبا، إلى الحد الذي أصبحت فيه تُربك سياقات اشتغال المؤسسات الديمقراطية بل وتهدد حتى جوهرها ومقوماتها.
إن ذلك يتجلى في ظهور حركات ذات امتداد مجتمعي، قاسمها المشترك هو ما نصطلح عليه بالشعبوية. وعلى الرغم من صعوبة تعريف المصطلح حيث يتفكه عدد من الباحثين بالقول: "إذا ما سألنا ثلاثة خبراء عن معنى الشعبوية فسنتلقى خمس إجابات"، فقدْ خلُصَ بحث صدر بداية نونبر الماضي إلى خلاصة مفادها أن حركة سياسية ما يمكن وصمُها بالشعبوية حين تعتمد منطقا قوامه: "1) النخب و'العناصر الخارجية' عنا نحن الشعب، كلها تعمل ضد مصالح 'الناس الحقيقيين'، 2) بما أننا نمثل صوت 'الناس الحقيقيين' فلا شيء بإمكانه الوقوف في وجهنا".
وقد وقف البحث على أن 46 قائدا أو مجموعة شعبوية قد وصلت إلى الحكم في 33 بلدا ديمقراطيا منذ 1990.
وبتلخيص شديد، فإن ثلاثة اتجاهات أساسية عموما يمكن رصدها في هذا الشأن:
- الشعبوية ذات المرجعية الاقتصادية الاجتماعية والتي تضع الشغالين ('الشعب الحقيقي') في مواجهة أصحاب القرار الاقتصادي والدوائر المرتبطة بهم،
- الشعبوية ذات المرجعية الهوياتية والتي تعتبر أن الصراع قائم بين "الأصيلين" من جهة وبين الوافدين المتحالفين مع الأوساط ذات الولاء الخارجي من جهة أخرى
- الشعبوية المناهضة للنظام بأكمله (anti-système) والتي يركز خطابها على النخب باعتبارها العدو الرئيسي للشعب.
وتخلص الدراسة إلى الخلاصات التالية:
- إن ممثلي هذه الاتجاهات الثلاثة لهم نفس الحظوظ للاستمرار في الحكم كغيرهم بل أكثر. وقد أثبتت المعطيات أن لهم حظوظا مضاعفة في هذا الشأن،
- إن خطر المساس المستدام بالمؤسسات الديمقراطية ودولة القانون هو أكبر في ظل إمساك الشعبويين بدفة الحكم، ما يؤشر على استمرار خطر الشعبوية والقادم أسوأ.
الشعبوية ظاهرة عالمية مقلقة
يجب الإقرار إذن أن ظاهرة "الشعبوية" تبدو غير محدودة التمدد جغرافيا، وغير مطوقة زمنيا، بل إننا نلاحظ في السنوات القليلة الماضية أنها أصبحت تمتد إلى مناطق ما كانت أبدا محط شك في هذا المجال.
إن السلطوية تجد تبريرها اكثر فأكثر في الدعوات الشعبوية بل أصبحت هذه الأخيرة هي أكبر مشجع على التوجهات السلطوية.
إن الأخطار الناتجة عن الشعبوية على اختلاف تمظهراتها لا تتمثل فقط في الأذى المبرمج الذي يلحق النظام الديمقراطي في جوهره واشتغاله، بل كذلك في الأضرار التي تلحق الفضاء العمومي والمجتمع بأكمله والمتمثلة في تشجيع النزعات الانكفائية واستشراء الانشطارات المجتمعية وتسويغ النزعات العنصرية والعنف والإقصاء، بل وفي إذكاء التوترات الخارجية وبالتالي تعريض السلم الدولي للخطر.
لا بد من الاجتهاد ولا بد من الإنصات لصوت المجتمع ولو مشوَّشا
أمام وضع كهذا وكمؤسسات برلمانية تستمد مشروعيتها من الإرادة الشعبية في بلداننا، وكأعضاء في الاتحاد البرلماني الدولي العريق، فإننا مطوَّقون بمسؤولية كبرى تتمثل في شقين:
- الانصات لصوت المواطنين المعبر عن انتظاراتهم وطموحاتهم لا في مجال التمثيلية ولا في مجال الالتزام بالأولويات المجتمعية. علينا الإنصات بإمعان لهذا الصوت ولو كان مشوشا، من أجل استقبال وفك رموزه. وربما يتعين القيام بمراجعات حقيقية يجب أن تترجم في قوانين انتخابية وغيرها. ويتعلق الأمر بطريقة انتداب النخب الحزبية وانتخاب النخبة البرلمانية. إن العديد من الانتقادات في هذا الشأن تنبني على واقع ضعف تجديد النخب وشكلية المشاركة واستمرار نفس الوجوه وعدم الوفاء بالالتزامات...
- الاجتهاد في فتح المجال أمام أشكال جديدة للتعبير عن الانتظارات والمطامح والحقوق.
إن نتائج العولمة على المستوى الإعلامي والتواصلي داخل المجتمعات والبلدان وما بينها قد وصلت حدا لم تصله البشرية أبدا في السابق فيما يتعلق بالولوج إلى المعلومات وتبادلها. وقد أسفر هذا الوضع عن تمدد إمكانات التدخل في المجال العمومي لمجموعات وأفراد لم تصل لأبدا إلى هذا اليسر في التواصل، رغم أن هذا التواصل نفسه لا يستعمل دائما لنشر الحقائق والدفاع المشروع عن الحقوق والطموحات.
هذا الوضع الجديد يتطلب من النموذج الديمقراطي أن يجدد نفسه، وهذا يتطلب نفسا طويلا وصبرا وحنكة، حتى لا نجد أنفسنا أمام نماذج "ديمقراطية" قد تتوفر فيها الحريات وبعض مظاهر دولة القانون في الوقت الذي يظل فيه القرار مركزا في أيدي إرادة عليا.
إن الديمقراطية التمثيلية التي اعتبرتْ مرجعيةً زمنا طويلا عن حق، لم تعد كافية أمام هكذا تطور. وإذا كان المطلوب هو استرداد ثقة المواطن في النموذج الديمقراطي – باعتباره أقل الأنظمة سوءا - وابتعاده عن الدعوات الشعبوية القاتلة فلا أفضل من اعتماد إجماع مجتمعي يقنن استحداث الأدوات التشريعية (قوانين) والآليات التدبيرية (مؤسسات) اللازمة القادرة على تمكين المواطنين، على سبيل المثال لا الحصر، من المشاركة في التشريع وعزل المنتخبين والمسئولين غير الأكفاء خلال الفترات الانتدابية نفسها، والولوج السلس إلى مراكز القرار في المؤسسات الحزبية، والمشاركة في هندسة القوانين والتقطيعات الانتخابية، وتيسير أكبر قدر من الشفافية في مجال التدبير العومي، حتى لا تبقى كل هذه المجالات حكرا على نخبة مغلقة لا تجدد نفسها ولا تصنع سوى توفير شروط الاحتقانات المؤدية إلى الهزات المقلقة...
من جهة أخرى، قد لا نجانب الصواب إذا قلنا بأن السير في هذا الاتجاه داخليا لا يُغني عن اعتماد وسلك السياسات الخارجية الجهوية والقارية والدولية الكفيلة بضمان تكاثف الجهود من أجل العمل على حل معضلات ستنيخ بكلكلها أكثر فأكثر على مستقبل النموذج الديمقراطي والتي لا مقدرة لأي بلد بمفرده لمواجهتها، وهي المتعلقة بمعضلات التحولات المناخية والهجرة السرية والهشاشة الاجتماعية القصوى في مناطق شاسعة والتوترات المزمنة في العديد من المناطق المسماة ب"الرمادية"...الخ.
إن أخطر ما يمكن أن يهدد مستقبل النموذج الديمقراطي هو نسيان التجارب التاريخية السيئة التي تمكن خلالها أعداء الديمقراطية من الوصول إلى أعلى مؤسساتها من أجل وئدها لا تطويرها. كما أن هناك مسؤولية كبرى في عنق الدول المؤسسة للنموذج الديمقراطي في المنافحة عنه اليوم بقوة في وجه الدعوات المشككة والنكوصية.
وشكرا على حسن إصغائكم