حضرات السيدات والسادة الحضور الكريم،
هذه الندوة كان يفترض ان نعقدها يوم..15 شتنير---احتفاءا باليوم العالمي للديمقراطية
للتذكير:الموضوع الذي حددته الأمم المتحدة لليوم الدولي للديموقراطية لهذه السنة (2018) هو : "إتاحة حلول لعالم متغير في ظل ديمقراطية تحت الضغط".
- تصادف ذكرى اليوم الدولي للديمقراطية هذه السنة، الذكرى 70 للإعلان العالمي لحقوق الإنسان وهيمناسبة للتذكير بكون احترام حقوق الإنسان وحمايتها والنهوض بها، فيكونيتها وشموليتها وعدم قابليتها للتجزيئ هي إحدى الشروط الأساسية للديموقراطية
- يستمد عنوان هذه السنة وكذلك التذكير بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان أهيمتهما في ظل تصاعد الشعبويات بمختلف ألوانها الإيديولوجية على مستوى عدد من البلدان، والظهور المقلق لأنماطمن الديموقراطيات غير الليبرالية، وتعاظم حجم التحديات التي تواجهها الديموقراطيات الناشئة على حد سواء والديمقراطيات الموطدة:( من بين هذه التحديات أزمة الوساطة السياسية و الاجتماعية، أزمة التمثيل السياسي، أزمة إدماج مختلف الفئات الهشة، والشباب في المؤسسات الديمقراطية سواء التمثيلية أو التشاركية منها...).
- إلى جانب هذه التحديات التي تواجهها الديمقراطيات التمثيلية بمختلف أشكالها منذ عقدين من الزمن على الأقل، ظهر أيضا جيل جديد من التحديات يتعلق بكيفية جعل الديمقراطيات أكثر قدرة على التكيف مع المتغيرات وأكثر ابتكارا واستجابة للقضايا الناشئة ومن بين هذه القضايا (الهجرة ،تغير المناخ، الأعمال التجارية وحقوق الإنسان، التنمية المستدامة، تقليص التفاوتات المجالية، تدبير التنوع اللغوي والثقافي، حماية قيم المجتمع الديمقراطي من الشعبويات، والتطرف العنيف، وخطاب الكراهية و العنصرية) وهي تحديات مشتركة بين الأنظمة الديمقراطية باختلاف مجالاتها الجغرافية والثقافية ودرجات تطورها.
بالعودة الى موضوع هذه الندوة، يظهر أن من المهم أن نقر وبطبيعة الحال، علينا أن نقر بالطابع المعقد والمتشابك والشائك لموضوع الندوة...ولذلك اعبر عن الأمل في ان تكون هذه الندوة بما ستفضي اليه من خلاصات وتوصيات، مقدمة لحوار وطني عمومي تعدد يحول موضوع الوساطة، لأنني افترض، وانا متأكد بانكم ستتفقون معي على صحة هذه الفرضية، أن هناك حاجة موضوعية ملحة، ان لم أقل مستعجلة: الحاجة لبناء نظام وطني موحد ومتكامل وناجع ومتعاضد الأطراف بشأن الوساطة في بعدها المؤسساتي والسياسي والاجتماعي والمدني والاقتصادي والثقافي وحتى الهوياتي.
أريد أن أدفع بمسلمة افترض انها لا تحتاج لمجهود لإثبات صحتها، ومضمونها أن الديمقراطية، مند أن إهتدت البشرية إليها، تسعى دائما، حسب موازين القوى في المجتمع الى تجديد آلياتها وتطوير أدوات اشتغالها، وذلك حتى تتمكنمن مواكبة تحولات المجتمع ودينامياته وتقديم أجوبة ناجعة عما ينشأ عنها من متطلبات وتحديات والتي قد تكون نتيجة لعدم مسايرة الآليات التقليدية للديموقراطية التمثيلية للتحولات والتطورات المجتمعية-
هذا النهج الذي يمكن أن نقر له على جدور ممتدة في التاريخ اهتدت إليه المجتمعات، على الخصوص، مند القرن التاسع عشرفي أمريكا الشمالية والدول الاسكندنافية، بهدف تعزيز وتقوية الديمقراطية عن طريق وسائط مرنة، وهي وسائط عادة ما اتخذت وتتخذ صيغا تشاركية في عملها.
إن المسار الديمقراطي في بلادنا لم يحد عن هذا التوجه، ويمكن أن نستدل على ذلك بمثالين:
أولهما، تقريرا: الخمسينية وتقرير الانصاف والمصالحة، فهما ليسا بمؤسستين ولا بآليات للإعمال، وانما تقريران تضمنا كل في مجاله، تشخيصات وتوصيات، اعتمدتهما الدولة المغربية، وعلى أعلى مستوياتها، لإيجاد أجوبة،بصورة تشاركية، لتدبير نصف قرن من السياسات العمومية في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية. أقر الجميع وطنيا ودوليا بأهمية هذين التقريرين وبأهمية الخيار المؤطر لهما، غير أن نتائجهما لم ترق، فيما يبدو،لمستوى الطموحات، نتيجة عدة عوامل من بينها عدم استدماج الفاعل الحزبي والنقابي، وهما ركيزتا الديمقراطية التمثيلية، لثقافة وادبيات وروح ما اصطلح عليه بالعدالة الانتقالية، من جهة، وعدم وضوح مخرجات التقريرين في السياسات العمومية من جهة أخرى.
المثال الثاني يحيلنا الى تسعينات القرن الماضي، تحديدا 8ماي 1990، تاريخ إحداث المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان، كآلية وساطة مجتمعية وجماعية في موضوع حقوق الإنسان. وهو المجلس الذي تعززت صلاحياته مع بداية هذه الألفية، قبل ان يتحول الى مجلس وطني لحقوق الإنسان في سياق الإصلاحات الدستورية والمؤسساتية
التي يشهدها المغرب.وهونفسالمسار الذي سجله تطور مؤسسة وسيط المملكة-ديوان المظالم سابقا-كآلية للتواصل بين المرتفقين، مواطنين وأجانب، والإدارات العمومية، بهدف إيجاد حلول مرضية للنزاعات التي قد تقع في علاقات الطرفين، بعيدا عن كلفة المنازعات القضائية.
وعلينا أن نلاحظ أن وضعية مؤسسات الوساطة الاجتماعية ستتغيرمع دستور يوليوز2011، لترتقي لمستوى الوساطة المؤسساتية المؤطرة بمقتضى الدستوروالقوانين المحدثة لها. وكما يعرف الجميع فقد خصص الدستور بابه الثاني عشر ل "الحكامة الجيدة" وحدد المؤسسات التي يمكن أن تنهض بها. فباستثناء هيئات الحكامة الجيدة والتقنين (الهاكا، مجلس المنافسة، هيئة الوقاية من الرشوة)، تتقاطع صلاحيات الهيئات الأخرى، كل واحدة في مجالها، مع مهمات الوساطة الاجتماعية.
لقد حدد ت مقتضيات الدستور، لهيئات حماية حقوق الإنسان والنهوض بها (المجلس الوطني لحقوق الإنسان، وسيط المملكة، مجلس الجالية المغربية بالخارج، الهيئة المكلفة بالمنافسة ومحاربة جميع أشكال التمييز)، وهيئات النهوض بالتنمية البشرية والمستدامة والديمقراطية التشاركية (المجلس الأعلى للتربية والتكوين، المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعي)، أقول حددت مقتضيات الدستور لهذه الهيئات مهمات مجتمعية واضحة، مواكبة للتطورات التي يشهدها المجتمع المغربي، ومستجيبة لمتطلباته وتحدياته.
نحن اذن إزاء بنيان مكتمل الهندسة من الوجهة المعياريةوالمؤسساتية، بحيث أصبحت هيآت الوساطة المؤسساتية بالإضافة الى مؤسسات الحزبية والنقابية ومنظمات المجتمع المدني،تشكل جزءا من البناء الحديث للدولة، يوفرلها الدستور بنية قانونية هامة، ويضمن لها استقلالية عملها (الفصل 159 من الدستور)،وهي الاستقلالية التي عززتها قرارات المجلس الدستوري (قرار924/2013 وقرار932/2014)..
طيب الآن، اذا طرحنا مؤسسات الوساطة على محك النقد والتساؤل وتسائلنا عن نجاعتها وفعاليتها وعما إذا كانت تؤدي الوظائف المنوطة بها ..... إذا طرحنا هذه الأسئلة، فنحن إذن أمام وجه آخر من الإشكالية.
أزمة الوساطة: أعطاب الوساطة، ضعف الفعالية والنجاعة، عجزها عن مواكبة الديناميات الاحتجاجية التي يفرزها المجتمع ..... هذه مفردات يعج بها الخطاب الإعلامي والسياسي السائد، وهي مفردات تتكرر على ألسنة الجميع وهناك اليوم حديث طاغ ويكاد يكون كاسحا عن ازمة الوساطة وأعطاب المؤسسات التي يفترض انها تضطلع بوظائف الوساطة بين المجتمع والدولةوبحكم عدم توفر دراسات علمية موثقة حول الموضوع عدا دراسة واحدة أنجزها المعهد المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية، وهي دراسة متعلقة بموضوع آخر، ولكنها تتضمن خلاصات مرتبطة بما نحن بصدد مناقشته.
لقد سبق لهذا المعهد أن أصدر تحذيرات ضمن دراسة أنجزها بين 2009 و2012، ونشرت في 2015، حول قياس مستوى التماسك الاجتماعي بالمغرب، خلصت إلى أن البنيات التقليدية للمجتمع المغربي، التي كانت قائمة على علاقات التماسك والثقة، آخذة في التآكل والضعف، لكن دون أن "تعوضها بنيات عصرية قادرة على الحفاظ على التماسك الاجتماعي وضمان قنوات الوساطة وتصريف التوترات"، إذ يعرف المغرب استمرار ثقة المغاربة في الروابط الأسرية والعائلية، مقابل ضعف الثقة في البنيات السياسية والاجتماعية والمدنية التي تتأسس عليها المجتمعات العصرية.
وأدى ذلك التحول، وفق الدراسة، إلى تغير في أشكال الاحتجاج وسقف الشعارات، إذ "تجذرت الحركات الاجتماعية بشكل لا يستهان به، وصارت مهيكلة ومؤطرة بشكل أفضل"، وهو التطور في أسلوب الاحتجاج، الذي ترافقه "نسبة مقلقة من العلاقات بين الأفراد، وبين المواطنين والدولة، على هامش القوانين"، وهو ما يجب تداركه "كي لا تتعرض سلامة الدولة للخطر، أو يتم إضعاف جهود التنمية الاقتصادية والاجتماعية".
واستشعرت الدراسة وجود خطر، سيما بعد رصدها أن ضعف الثقة في البنيات السياسية والاجتماعية والمدنية، وأزمة العلاقات القديمة التي كان محورها الأعيان، وأطر الوساطة التقليديين، وتشتت الحقل السياسي وبطالة شباب حضري عازف عن السياسة، أمور يوازيها "ارتفاع مظاهر انعدام الحس المدني في الفضاءات العمومية والطرق"، و"ازدياد مظاهر عدم احترام القانون والممتلكات العمومية والخاصة والمساس بحقوق الأشخاص وسلامتهم"، في وقت "لا يفلح فيه الإعلام والمجتمع المدني، رغم بروز دورهما، في حل الأزمة".
- بالحديث عن أزمة الوساطة ، يبدو لي أن الخطب الملكية السامية لا سيما منها : خطاب 12 أكتوبر 2018، خطاب 20 غشت 2018، خطاب 29 يوليوز 2018، خطاب 13 غشت 2017 وخطاب 29 يوليوز 2017، قد تضمنت عناصر التشخيص النقدي لأزمة النسيج الوطني للوساطة السياسية والاجتماعية و المدنية، و كذا مداخل استشراف عناصر التجاوز (القانوني والتنظيمي والعملي) لهذه الأزمة:
- يمكن التذكير في هذا الصدد بقرار رفع الدعم العمومي الخاصبهيئات الوساطة الحزبية، إطار السياسة المندمجة للشباب، إصلاح منظومة التربية و التكوين، الدعوة لتجديد مسارات التنخيبprocessus d’élitisation وعروض العضوية و العروض البرنامجية للأحزاب السياسية، الدعوة لوضع نموذج تنموي جديد ، و هو النموذج الذي يفترض كشرط قبلي تجديد النسيج الوطني للوساطة.
- يبدو لي ان إعمال هذه المداخل و إعطائها طابعا إجرائيا، يفترض الإجابة على تساؤل عملي : ما هي العوائق التي حالت دون الاستثمار الأمثل للإمكانيات الاستراتيجية التي أقرها الدستور في مجال تقوية آليات الوساطة المرتبطة بالديمقراطية التمثيلية و في مجال إرساء إطار مؤسساتي متكامل لآليات الديمقراطية التشاركية؟ يمكن التذكير ببعض هذه الإمكانيات ذات العلاقة بأزمة النسيج الوطني للوساطة : الأدوار الدستورية للأحزاب و النقابات و المجتمع المدني، آليات الديمقراطية التشاركية على المستوى الوطني و على مستوى الجماعات الترابية.
- يرتبط بهذا التساؤل العملي تساؤلات أخرى لا تقل عنها أهمية: كيف يمكن التحويل الإيجابي للديناميات الاحتجاجية المشروعة المرتبطة بالطلب على الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والطلب القوي على العدالة الاجتماعية والمجالية إلى ديناميات تشاركية فعالة وأن تجد هذه المطالب المكانة التي تستحق في أجندة السياسات العمومية القطاعية و الأفقية والترابية؟ وكيف يمكن أن يجد فاعلو وفاعلات الديناميات الاحتجاجية بوصفهم زعماء مدنيين للرأي الموقع المؤسساتي الملائم الذي يمكنهم من استمرار لعب دور التأثير والتأطير الإيجابيين لديناميات السياسات العمومية، سواء على مستوى الهيئات الدستورية للنهوض بالتنمية البشرية و المستدامة والديمقراطية التشاركية، أو على مستوى آليات الوساطة التمثيلية (الأحزاب و النقابات) والمدنية (الجمعيات) و الهيئات الاستشارية الترابية (هيئات الحوار والتشاور المحدثة لدى الجماعات الترابية)؟ وبعبارة آخرى كيف يمكن استثمار كل فرص المشاركة المواطنة المتاحة دستوريا من أجل تحويل الديناميات الاحتجاجية إلى رافعة لسياسات عمومية مبنية على العدالة الاجتماعية دامجة لمختلف مكونات المجتمع لا سيما الهشة منه، و موجهة لتحقيق أهداف التنمية المستدامة، في إطار نموذج تنموي جديد قيد البناء؟
- إن التفكير الجماعي في هذه الأسئلة العملية، بوصف الإجابات المقدمة عنها مخرجات متوقعة للندوة يفترض من الناحية المنهجية تحقق ثلاثة شروط :
- اعتبار الثقة في مؤسسات الديمقراطية التمثيلية والتشاركية بمثابة رأس مال رمزي ذي طابع اجتماعي وسياسي يزيد منسوبه وينقص حسب درجات ونوعيات استجابة الفاعلين العموميين للطلبات المجتمعية على الحقوق، ومن ثم يتعين اتخاذ مسافة نقدية من أي "خطاب قدري" وغير مدعم علميا، حول أزمة الثقة أو فقدانها التام.
- عدم اعتبار أزمة النسيج الوطني للوساطة السياسية و الاجتماعية و المدنية قدرا محتوما ، لا راد له ولا حل ولا قبل لأحد به ، بقدر ما يمكن اعتبارها عنوانا على أزمة نمو الديمقراطية المغربية،او ان شئتم الدقة عنوانا لمخاض توطيد الديمقراطية سيما و أن الإطار الدستوري لبلادنا لازال يتيح فرصا كبرى لتجاوزها عبر ابتكار حلول مؤسساتية دامجة.
- عدم اعتبار الديناميات الاحتجاجيةـ، أزمة في ذاتها، و ذلك لعدم استنفاذ إمكانيات الإجابات المؤسساتية (التمثيلية و التشاركية) عليها، إلى حد الآن، ووفق هذه الرؤية، يمكن اعتبار هذه الديناميات فرصة تاريخية لتجديد النسيج الوطني والترابي للوساطة ببلادنا عبر إدماج فاعلين جدد، وقضايا جديدة، وابتكار حلول مؤسساتية جديدة في إطار دستوري لم تستنفذ إمكانياته في هذا المجال بعد.