كلمة رئيس مجلس المستشارين حول السياسة العمومية للنهوض بالطفولة بالمغرب، تلاها بالنيابة الخليفة الثاني لرئيس المجلس السيد عبد الإله الحلوطي.
السيدات والسادة الكرام؛
يسعدني، نيابة عن السيد الرئيس، أن أرحب بكم في مجلس المستشارين الذي يحتضن أشغال هذه الندوة الوطنية المخصصة لموضوع "السياسات العمومية للنهوض بأوضاع الطفولة بالمغرب"، والمنظمة من طرف منظمة بدائل للطفولة والشباب، والتي تكتسي بالنسبة لنا أهمية خاصة على اعتبار أن الإشكاليات المرتبطـة بالطفولـة تهـم المجتمـع بأكملـه، ولقــد أدركــت مختلــف بلــدان العالــم أهميــة الاستثمار المناســب فــي الطفولــة، كعامــل أساســي للحــد مــن الفقــر والتفاوتــات الاجتماعية ولتحقيــق الرخــاء والنمــو الاقتصادي. لذلك من المفروض أن تشكل مسألة توفير الحماية من كل أشكال انتهاك حقوق الأطفال انشغالا مركزيا ودائما لدى الجميع، لأن حمايـة الطفولـة وضمـان ظـروف عيـش كريمـة للأطفال يعتبر عنصرا أساسـيا لتحديـد معالـم مسـتقبلهم، ذلـك أن لكل طفـل الحـق فـي التعليـم والسـكن اللائق والرعايـة الصحيـة.
ومـن هـذا المنطلـق، التـزمت بلادنا منذ عدة سنوات باحتـرام حقـوق الطفـل والعمـل علـى فـرض احترامهـا، وانخـرطت فـي ديناميـة تسـعى إلـى النهـوض بها، مـن خـلال المصادقـة علـى الاتفاقية الدوليـة لحقـوق الطفـل والبروتوكولات الثلاثة الملحقة بها، واعتمـاد أهـداف التنميـة المسـتدامة الراميـة علـى الخصـوص إلـى تقليـص نسـبة الأطفال الذيـن يعانـون مـن الفقـر، وقـد تـم تجسـيد هـذا الالتزام مـن خـلال سلسـلة مـن السياسـات العموميـة الهادفـة إلـى تحسـين رفـاه الأطفال وضمـان تمدرسـهم وحمايتهـم.
ولقد شكلت خلال السنوات الأخيرة الحماية الدستورية للأطفال، منعطفا حاسما في مسلسل تعزيز المنظومة الوطنية للحماية القانونية للطفل، حيث نص الفصل 32 من دستور 2011 على أن "الدولة تسعى لتوفير الحماية القانونية، والاعتبار الاجتماعي والمعنوي لجميع الأطفال، بكيفية متساوية، بصرف النظر عن وضعيتهم العائلية"، كما تم التنصيص على إحداث مجموعة من الهيئات الجديدة للارتقاء بالحكامة والديمقراطية والمساواة (كالمجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، والمجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي (. .
وبالمناسبة نذكر بأن مسألة توفير الحماية من كل أشكال انتهاك حقوق الأطفال تشكل انشغالا دائما لدى صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، وهو ما يجسده الدعم المستمر الذي يقدمه جلالته لعمل المرصد الوطني لحقوق الطفل، وهو ما أعاد التأكيد عليه في رسالته السامية التي وجهها إلى المشاركين في المنتدى العالمي لحقوق الإنسان المنعقدة بمراكش شهر دجنبر 2014.
ولا يخفى عليكم أن هذا الموضوع يشكل أولوية لدينا في مجلس المستشارين، حيث نتطلع إلى وضع آلية لنقل الأولويات المعبر عنها في إطار دورات برلمان الطفل إلى مجال العمل التشريعي والرقابي وتقييم السياسات العمومية.
حضرات السيدات والسادة؛
بالرغـم من مما قد يبدو من أن هناك تقـدما فـي المجـال التشـريعي وفـي مجـال السياسـات القطاعيـة والبرامـج الاجتماعية، وكذا تحقـيق بعـض المكاسـب خـلال العقديـن الأخيرين والتي يجب تعزيزها، إلا أن الجهـود التـي تبذلهـا السـلطات العموميـة فـي تجسـيد فعليـة حقـوق الطفـل تظـل ناقصـة وهناك إكراهات يجب تجاوزها.
فمن خلال الاطلاع على العديد من الدراسـات والتقارير التـي أنجزت، سواء من طرف الدولـة ومنظمـة اليونيسـف والمجتمـع المدنـي، وكذا تحليل الملاحظات الختامية التي أدلت بها لجنة حقوق الطفل حول التقارير التي يتقدم بها المغرب، يتضح أن بعــض المعاييــر والممارســات الضــارة بالأطفال ما تزال منتشرة في مجتمعنا، وأن السياســات العموميــة المتعلقــة بالطفولــة تفتقــر إلــى التنســيق ولا تحظــى بالتتبـع والتقييـم الضرورييـن. كما أن عـددا كبيـرا مـن الأطفال مـا زالـوا عرضـة لمظاهـر عنـف متعـددة وللأشكال الفظيعــة منــه بشــكل خــاص، وبالتالـي، فـإن التحقيـق الفعلـي لحقـوق الطفـل، وعلـى وجـه الخصـوص، حقـه فـي الحمايـة، مـا زال مثـار قلـق وانشـغال. بل وتعتبر بعض المنظمات الحقوقية أنا بلادنا لازالت بعيدة عن ملاءمة التشريعات الوطنية مع أحكام ومقتضيات الاتفاقية الدولية لحقوق الطفل.
ويمكن أن نورد على سبيل المثال بعضا مما جاء في التقرير المهم الذي أعده المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المعنون ب"فعلية حقوق الطفل، مسؤولية الجميع" الذي أنجز سنة 2016، حيث سجل ،من بين ما سجل ، أن كلُّ السياسات التي يتم تفعيلها إلى حدود اليوم تتميز بطابعها القطاعي وغياب إطار متفق بشأنه للتنسيق بين القطاعات على المستوى المركزي وعلى المستوى الترابي، خصوصا وأن ظواهر العنف والاعتداء والاستغلال والإهمال هي ظواهر معقدة ومتعددة الأبعاد تقتضي تدخلات منسجمة بين فاعلين من تخصصات متعددة يشتغلون على مستويات مختلفة. كما يسجل التقرير أن هذه السياسات لا تحظى بالتتبع والتقييم الكافيين، وتفتقر إلى التنسيق والرؤية المندمجة ومن محدودية الأجرأة على المستوى الترابي.
حضرات السيدات والسادة؛
إن السياق الوطني اليوم يعتبر ملائما لإعادة بناء حماية الطفولة على أسس جديدة، فهناك من جهة الديناميات الإصلاحية التي تعرفها بلادنا، وهناك من جهة أخرى الالتزامات الدولية للمغرب في مجال حقوق الطفل، لذلك يجب استحضار معا هذه الالتزامات والأوراشَ الجارية(السياسة العمومية المندمجة لحماية الطفولة، ورؤية 2030 لإصلاح المدرسة المغربية التي يجب أن تشكلا رافعتين من أجل التحقيق الفعلي لحقوق الطفل، مع الوعي بكل التحديات التي تنتصب في طريق تفعيلهما، وكذا إحداث المجلس الاستشاري للأسرة والطفولة، وتنزيل الجهوية المتقدمة...(.
ويجب التأكيد على أن هناك الكثير مما يجب تحقيقه والمزيد من الأشواط التـي مـا زال يتعيـن على بلادنا قطعهـا، لذلك يجب أن تحظـى الطفولـة باهتمـام خـاص فـي إطـار السـعي إلـى بلـوغ «أهـداف التنميــة المســتدامة» لمــا بعــد 2015 التــي انخــرط المغــرب فيهــا. و يجـب على الدولـة أن تفي بالتزاماتهـا الوطنيـة والدوليـة، وأن تضـع سياسـات تكَفـل حمايـة حقـوق الطفـل وتفـرض احتـرام القانـون بمـا يخـدم المصلحـة الفضلـى للطفـل.
وبناء عليه نعتبر أنه لا بد من الارتقاء بحماية الأطفال وحقوقهم إلى مستوى إحدى أولويات الأجندة السياسية الوطنية، ويتعين تجسيد هذا الهدف بالملموس من خلال دمج حقوق الطفل في السياسات العمومية وفي وضع ميزانيات القطاعات الوزارية. وفي هذا الإطار نرى أنه من الأنسب جعل السياسة العمومية المندمجة للطفولة بمثابة قانون إطار من أجل ضمان استمراريتها والانسجام بين مكوناتها.
ومن بين المداخل الأساسية التي يتعين أن تقوم عليها أية سياسة عمومية موجهة للأطفال نذكر على سبيل المثال:
-ضرورة مراجعة المقاربات ومنطق التدخلات الحالية وتبني مقاربة مندمجة أفقية ونسقية؛
- حصـر مختلـف مسـتويات المسـؤولية والعقبـات التـي تحـول دون الحمايـة الفعليـة للأطفال،
- التنسيق الفعلي بين أعمال مختلف القطاعات الوزارية والجماعات الترابية والمجتمع المدني. وكذا توضيح وإعادة تأطير مختلف المهام والمسؤوليات المُسندة إلى مختلف الوزارات ومختلف المتدخِّلين على المستوى الوطني والجهوي المعنيين بالطفولة.
- وضع ميزانية متعددة السنوات على أساس مؤشرات مرتبطة بحقوق الطفل. وتنويع مصادر التمويل، من خلال عدم الاعتماد فقط على ميزانية الدولة بل يجب البحث عن اعتمادات من القطاع الخاص وموارد متأتية من التعاون الدولي.
- ضرورة إشراك المجتمع المدني والقطاع الخاص، بطريقة منظَّمة ودائمة في تفعيل أية استراتيجية.
- تحسين أداء المؤسسات وتقوية قدراتها البشرية والمادية لتكون قادرة على تفعيل وتتبع وتقييم مخططات العمل والاستراتيجيات.
- التتبع والتقييم الصارم والدقيق القائم على مؤشرات مرتبطة بحقوق الطفل، وربط المسؤولية بالمحاسبة انطلاقا من أهداف محدَّدة بوضوح.
- التفعيل على المستوى الترابي وإنشاء نظم وآليات ترابية مندمجة لحماية الطفولة، مما يستلزم إدماج حماية الطفل في المخططات الجهوية والإقليمية للتنمية وفي المخططات الجماعية للتنمية؛ بالإضافة إلى الأهمية القصوى التي يكتسيها إنجاز تشخيص ترابي لوضعية الأطفال، يتضمن تحديد الإشكاليات وأبعادها على المستوى المحلي والجهوي وحجم الحاجيات من الموارد وجردا لمختلف الفاعلين(القطاعات الوزارية اللامتمركزة والجمعيات والجماعات المحلية والقطاع الخاص...)؛ (توفير المعطيات المتعلقة بالخصوصيات المحلية في مجال حماية الأطفال وبتطور وضعيتهم)؛
وفي هذا الإطار تظهر أهمية مقترح المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، الوارد في التقرير الذي سبقت الإشارة إليه، والمتعلق بإنشاء لجنة جهوية لحماية الطفولة، مكلفة بترجمة السياسة المندمجة لحماية الطفولة إلى مخططات عمل وبتنسيق التدخلات على المستوى الجهوي ذات العلاقة، ووضع الميزانيات متعددة السنوات ورصد الاعتمادات وتتبع وتقييم المنجزات ووضعية الطفولة وإحداث نظام للإعلام. ويتعين أن تكون هذه الهيئة متعددة الأطراف (الهيئات المنتخبة، السلطة المحلية، القطاع الوزاري المكلف، المجتمع المدني)؛
هذه بعض القضايا والأفكار والمقترحات التي وددت تقاسمها معكم بخصوص هذا الموضوع الذي يستلزم تعبئة والتزاما وطنيا قويا لبناء إطار منسجم ينخرط فيه الجميع لضمان التنسيق وإدراج بٌعد حماية الطفولة بشكل فعال ومستدام في مختلف السياسات والبرامج العمومية مركزيا ومحليا.
وفي الأخير أتمنى النجاح لأشغال هذه الندوة الوطنية، وأن تخرج بتوصيات تساعدنا كمؤسسة تشريعية على تفعيل اختصاصاتنا في مجال التشريع والمراقبة والتقييم في كل ما له علاقة بحماية الطفولة.
وشكرا على حضوركم ومشاركتكم وحسن اصغائكم.