لندن 15 مارس 2016
أشكركم جزيل الشكر على استضافتي في هذه المؤسسة العريقة: مؤسسة Chatham House لإلقاء محاضرة تتوخى تقريبكم من المسارات الإصلاحية الجارية ببلدي المغرب في محيط إقليمي وجهوي متغير ومتقلب.
و يبدو أنه بالنظر للتعقيد المنهجي للموضوع، فإني أقترح عليكم الانطلاق من تأطير إقليمي عام لسياق 2011 و ما بعدها، و ذلك للمرور إلى تقديم السياق المغربي، مع التوقف عند التحديات الوطنية و الإقليمية الأساسية ذات العلاقة بالمسار الإصلاحي.
ذلك أنه من المهم منهجيا استحضار سياق الحراك الاجتماعي و السياسي القوي على المستوى الإقليمي و الذي اتخذ تسميات مختلفة ، من أشهرها "الربيع العربي" أو "الربيع الديموقراطي" ، و هو حراك أدى – عبر مطالبات أكثر أو أقل سلمية- إلى إطلاق مسار لتغيير الأنظمة السياسية السلطوية في تونس ، ليبيا ، مصر ، و اليمن ، كما أدى إلى تقوية المطالبات بإصلاحات سياسية و مؤسساتية في دول أخرى مثل الأردن و البحرين.
و بغض النظر عن اختلاف المسارات و عن نوعية الفاعلين السياسيين و استراتيجياتهم في هذه البلدان ، فإن لهذه السياقات خصائص مشتركة ، فمن جهة أولى أشرت هذه الحراكات على الترابط القوي بين الطلب على الولوج إلى الحقوق المدنية و السياسية و بين الولوج إلى الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية ، مقدمة بهذا الشكل برهانا إضافيا و ميدانيا على الترابط بين الحقوق الأساسية. كما أن السياقات السياسية التي سبقت سنة 2011 اتسمت بآثار الضغط المتزايد للانتقال الديمغرافي (تزايد نسبة السكان النشيطين في مقابل فرص الشغل المحدودة )، و بآثار أزمة السياسات العمومية سيما منها الاجتماعية ، و كذا الطلب المتزايد على التمثيل و المشاركة السياسية في أنظمة ذات طابع سلطوي أو متسمة بتنافسية سياسية محدودة.
ترتب عن هذا التغيير إطلاق مسارات تأسيسية لوضع دساتير للانتقال إلى الديمقراطية ، و كذا إجراء انتخابات وفق قواعد معيارية جديدة ، تشكل قطيعة ، بدرجات متفاوتة، مع الأنساق السياسية السلطوية ، و هو ما أكدته التجربتان التونسية و المصرية بغض النظر عن مآلاتهما المختلفة . في حين أدت المسارات الخاصة لليبيا و اليمن إلى تفكك مؤسسات الدولة، و إلى بروز سيناريو الدول الفاشلة. غير أن قراءة المآلات المختلفة لهذه الدول تبرز قاسما مشتركا يتمثل في الطابع الاستراتيجي لرهان إدماج مختلف الفئات الاجتماعية و القوى السياسية، حيث لا يكفي بناء مسار ما بعد السلطوية انطلاقا من المنطق الأغلبي للاستحقاق الديمقراطي (و هو ما أبرزته التجربتان التونسية و المصرية). كما بدا أن تباين الرهانات الإقليمية على التحولات السياسية الداخلية، و تقوي دور الفاعلين غير الدولتيين (قوى مسلحة، منظمات إرهابية) أديا إلى انهيار دول كاليمن و ليبيا.
و قد اتضح، أن مختلف القوى السياسية و الاجتماعية الفاعلة في سياقات الانتقال و الخروج من السلطوية في هذه البلدان ، و بغض النظر عن مرجعياتها الفكرية و السياسية المتباينة ، بدأت تبرز تملكا متزايدا على مستوى صياغة مطالبها و خطاباتها ، و إن بدرجات متفاوتة، للقيم الأساسية المتعلقة بالحقوق السياسية. و إن كانت التوترات القيمية الملاحظة بين الفاعلين السياسيين في هذه البلدان (خاصة بين القوى ذات المرجعية الإسلاموية، و باقي القوى ذات المرجعية الليبرالية أو الاشتراكية) تتعلق أساسا بالحقوق المدنية و بقضايا المناصفة بين الجنسين و سمو المواثيق الدولية على التشريع الداخلي و كذا القضايا المتعلقة بالطابع الفعلي للحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية، و الحقوق اللغوية و الثقافية.
غير أن التجربة المغربية تختلف عن هذه الخطاطة، حيث لا ينبغي، من وجهة نظري، الارتكان إلى المقارنة السهلة بين سياقات الخروج من السلطوية التي عرفتها عدد من الدول العربية (تونس، مصر على سبيل المثال) و بين السياق الانتقالي في الحالة المغربية منذ 2011.
-
عناصر السياق الانتقالي في الحالة المغربية (1999-2011):
في المغرب ، انطلق مسار الانتقال الديمقراطي منذ نهاية القرن العشرين (منذ 1999)، حيث راكم هذا المسار عددا من المحطات وجملة من الأوراش والديناميات الاصلاحية يمكن إبراز آثارها النوعية من خلال قراءتها في السياق التاريخي متوسط المدى :
-
الاستعمالات المتجددة للفصل 19 من دستور 1996 (مؤسسة إمارة المؤمنين و رئاسة الدولة) لتدبير استراتيجي للقضايا الأساسية للخروج من السلطوية ، عبر إعادة تنظيم المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان في 2001، و إطلاق مسار العدالة الانتقالية ، و بداية مأسسة استراتيجية لتدبير التعدد اللغوي و الثقافي من خلال إنشاء المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية ، و تدبير الولوج المتكافئ و التعددي إلى وسائط الاتصال السمعية البصرية و إحداث آلية تمثيل و تشاور متعلقة بالمغاربة المقيمين بالخارج .
-
حالات ممارسة المؤسسة الملكية لوظائفها التحكيمية و التوجيهية بارتباط وثيق مع مؤسسات الديمقراطية التمثيلية ، من أجل إيجاد حلول معيارية لدعم الموقع القانوني و الاجتماعي للنساء (مدونة الأسرة ، تعديل قانون الجنسية).
-
المبادرة بالتفكير الجماعي ، من منظور استرجاعي rétrospectif تحليلي و نقدي ، في الخيارات الكبرى للسياسات العمومية منذ الاستقلال ، من خلال تقرير الخمسينية
-
إرساء سياسات عمومية إدماجية inclusives هادفة للتأهيل الاجتماعي و الاقتصادي و القانوني للفئات الاجتماعية الهشة، انطلاقا من منظور شمولي للتضامن و التماسك الاجتماعي ، و هو ما تمثله المبادرة الوطنية للتنمية البشرية منذ 2005 في نسختها الأولى و الثانية.
-
إنتاج حلول (تمت دسترة بعض مبادئها الأساسية) من شأنها إنتاج تحول عميق في الحكامة الترابية و توسيع فضاءات التشاور و المشاركة على المستوى الترابي من خلال ، تعديل الميثاق الجماعي لإرساء مبدأ التخطيط المحلي التشاركي المبني على مقاربة النوع الاجتماعي و دور مقترحات اللجنة الاستشارية بشأن الجهوية الموسعة ، و كذا المبادرة المغربية بشأن منح الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية و التي تطابق من حيث الحلول المعروضة في المبادرة معايير الميثاق الأوربي للاستقلالية الجهوية La Charte européenne de l’autonomie régionale
-
يسجل أيضا أنه منذ الانتخابات التشريعية لسنة 2002 بروز توجه متزايد في تدبير الاستحقاقات الانتخابية بقواعد معيارية تضمن شروط التنافس المتكافئ بين مختلف المترشحين ، كما تراكمت، مع تقدم المسار الانتقالي، قواعد جديدة خاصة في مجالات التمييز الإيجابي للرفع من التمثيلية السياسية للنساء و ضمانات الولوج المتكافئ إلى وسائل الإعلام العمومية، و التنظيم القانوني للحقل الحزبي بشكل يؤدي إلى تقوية الحكامة الحزبية الداخلية. أما على مستوى الممارسة فقد بدأ حياد السلطات العمومية المكلفة بتدبير العمليات الانتخابية يتقوى مع مرور الاستحقاقات الانتخابية.
و قد مكن هذا التراكم، من إيجاد بيئة مواتية للتعبير عن الطلبات والديناميات المجتمعية المتعلقة بالإصلاح الدستوري، سواء الطلبات الصادرة عن الفاعلين الحزبيين ، أو الفاعلين الجمعويين العاملين في مجال الترافع حول تنمية الديمقراطية أو المشاركين في مختلف الحركات الاجتماعية المطالبة بالولوج إلى الحقوق الأساسية بما فيها الحركات السياسية و الاجتماعية ذات الطابع الاحتجاجي (حركة 20 فبراير مثلا).
فمنذ بداية القرن الواحد والعشرين , سجل تحول متزايد من قبل الحركات الاجتماعية و الفاعلين الجمعويين نحو صياغة التعبير عن المطالب في صورة طلبات للولوج إلى الحقوق (الحقوق الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية و بدرجة أقل بعض الحقوق المدنية و السياسية) , كما سجل تملك متزايد من قبل هؤلاء الفاعلين (بدرجات متفاوتة حسب خياراتهم الإيديولوجية أساسا) لمنتجات مسار العدالة الانتقالية (توصيات هيأة الإنصاف و المصالحة) بل و بناء استراتيجية ترافعية على أساسها.
-
منعطف سنة 2011
-
بناء العرض العمومي l’offre publique المتعلق بالإصلاحات الدستورية
شكلت سنة 2011 بالنسبة لبلادنا سنة تحول أساسية أشرت على المرور من سياق الانتقال transition الديمقراطي إلى التثبيت consolidation و اكتسى هذا المرور طابعا خاصا مع تقوي المطالبات بالإصلاحات الدستورية و السياسية و المؤسساتية التي شكلت حركة 20 فبراير فاعلا أساسيا فيها ، و بالنظر لحصيلة التراكمات الإيجابية خلال العقد السابق فقد تمكن مختلف الفاعلين السياسيين من استثمار لنافذة الفرص المتاحة و المتمثلة في التقارب الكبير لأجندات الفاعلين المتعلقة بالإصلاحات و التفاعل في الوقت المناسب مع تجدد و تقوي الطلب على هذه الإصلاحات.
و يمكن اختبار صلاحية هذه الخلاصة من خلال الاطلاع على مضمون عناصر الأرضية التأسيسية لحركة شباب عشرين فبراير خاصة في الجوانب ذات العلاقة المباشرة بتقوية الطابع البرلماني للنظام السياسي و كذا بتوسيع الضمانات الدستورية للحقوق الأساسية، كما يمكن تطبيق نفس إطار القراءة هذا على الوثائق الاقتراحية التي تتضمن تصورات متكاملة لشكل النظام السياسي كوثيقة "الملكية البرلمانية، هنا و الآن" التي تم إنتاجها من قبل الائتلاف الذي يحمل نفس الاسم.
و بهذا المعنى يمثل العرض العمومي للإصلاحات الدستورية الوارد في الخطاب الملكي ل9 مارس 2011 ، والذي مثل إحدى أقوى تعبيرات تجاوب ملك البلاد مع نبض وتطلعات شعبه ، تركيبا للآراء و التصورات المترتبة عن الدينامية طويلة الأمد التي سبقت الإشارة إليها.
و يتضح الطابع التركيبي للعرض العمومي من خلال استعراض عناصره الأساسية :
-
التكريس الدستوري للمبادئ الأساسية للجهوية
-
التكريس الدستوري للطابع التعددي للهوية المغربية الموحدة، الغنية بتنوع روافدها، وفي صلبها الأمازيغية، كرصيد لجميع المغاربة ;
-
ترسيخ دولة الحق والمؤسسات، وتوسيع مجال الحريات الفردية والجماعية ،وضمان ممارستها، وتعزيز منظومة حقوق الإنسان ،بكل أبعادها، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والتنموية، والثقافية والبيئية، ولاسيما بدسترة التوصيات الوجيهة لهيأة الإنصاف والمصالحة، والالتزامات الدولية للمغرب ;
-
الارتقاء بالقضاء إلى سلطة مستقلة، وتعزيز صلاحيات المجلس الدستوري، توطيدا لسمو الدستور، ولسيادة القانون، والمساواة أمامه ;
-
توطيد مبدأ فصل السلط وتوازنها، وتعميق دمقرطة وتحديث المؤسسات وعقلنتها، من خلال برلمان نابع من انتخابات حرة ونزيهة، يتبوأ فيه مجلس النواب مكانة الصدارة، مع توسيع مجال القانون، وتخويله اختصاصات جديدة، كفيلة بنهوضه بمهامه التمثيلية والتشريعية والرقابية. و كذا حكومة منتخبة بانبثاقها عن الإرادة الشعبية، المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع، وتحظى بثقة أغلبية مجلس النواب ;مع تكريس تعيين رئيس الحكومة من الحزب السياسي، الذي تصدر انتخابات مجلس النواب، وعلى أساس نتائجها. كما تضمن العرض العمومي المتعلق بالإصلاح الدستوري توجيها بتقوية مكانة رئيس الحكومة، كرئيس لسلطة تنفيذية فعلية، يتولى المسؤولية الكاملة على الحكومة والإدارة العمومية، وقيادة وتنفيذ البرنامج الحكومي ،و كذا دسترة مؤسسة مجلس الحكومة، وتوضيح اختصاصاته،
-
تعزيز الآليات الدستورية لتأطير المواطنين، بتقوية دور الأحزاب السياسية، في نطاق تعددية حقيقية، وتكريس مكانة المعارضة البرلمانية، والمجتمع المدني
-
تقوية آليات تخليق الحياة العامة، وربط ممارسة السلطة والمسؤولية العمومية بالمراقبة والمحاسبة ،
-
دسترة هيآت الحكامة الجيدة، وحقوق الإنسان، وحماية الحريات.
-
تدبير مسار مراجعة الدستور من قبل اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور و الآلية السياسية المرتبطة بها.
اختار المغرب تدبير مسار مراجعة الدستور عبر اللجنة الاستشارية لمراجعة الدستور و الآلية السياسية المرتبطة بها. و شكلت اللجنة إطارا للخبراء لإعداد مسودة لمراجعة الدستور على أساس نهج تشاوري و تشاركي عبر الاستماع إلى آراء الأحزاب السياسية و النقابات و الجمعيات حول مقترحاتهم بخصوص مراجعة الدستور و تلقي مذكراتهم بهذا الخصوص.
بالمقابل شكلت الآلية السياسية مجالا للتشاور بين الأحزاب السياسية و النقابات حول الخيارات الأساسية المتعلقة بالمراجعة الدستورية.
و قد شكل اختيار آلية اللجنة الاستشارية للخبراء , إطارا لتدبير رهانات لم نكن نجدها بنفس الأهمية في النموذج الكلاسيكي لمختلف أشكال عمل خبراء إعداد مشاريع الدساتير خلال النصف الثاني من القرن الماضي.
-
تقديم الحلول المعتمدة في دستور 2011
لقد شكل الدستور الحالي حلا يستجيب بشكل إجمالي للنواة الصلبة من المجال المشترك لاقتراحات الفاعلين الحزبيين و النقابيين و الجمعويين المتعلقة بالإصلاح الدستوري. و هكذا يمكن تقديم أهم عناصر الدستور الذي حاز على مصادقة الشعب المغربي من خلال الاستشارة الاستفتائية لفاتح يوليوز 2011 كما يلي :
-
من ناحية تصميمه design يعتبر دستور 2011 من الجيل الثالث للدساتير الذي ظهر خلال تسعينات القرن الماضي مع سياقات الخروج من السلطوية في دول أوربا الشرقية و أمريكا اللاتينية ، حيث قدم دستور 2011 توزيعا جديدا للسلط و تكريسا لفصلها و توازنها و تعاونها , مع توسيع قواعد الحقوق و الحريات المضمونة دستوريا (تقريبا ثلث المتن الدستوري) ، كما تضمن القواعد الأساسية للحكامة المجالية مع ترسيخ ثقافة ربط المسؤولية بالمحاسبة.
-
على مستوى الهوية : أعاد دستور 2011 تحديد الهوية المغربية المتنوعة و المتعددة ، عبر التكريس الدستوري لقيم الانفتاح و الاعتدال و التسامح و الحوار من جهة و عبر تكريس الديباجة –التي تشكل جزءا لا يتجزأ من الدستور- لتنوع روافد الهوية المغربية (العربية، الأمازيغية، الحسانية، الإفريقية، الأندلسية، العبرية و المتوسطية )
-
حدد دستور 2011 أيضا المبادئ الأساسية للتعاقد اللغوي –الثقافي الجديد ، القائم على تكريس الطابع الرسمي للغة العربية و اللغة الأمازيغية ، مع سياسة لغوية و ثقافية فاعلة و منسجمة تستهدف من جهة حماية اللغات الوطنية و الرسمية و النهوض بها، و تشجيع تعلم اللغات الأجنبية، بالإضافة إلى إحداث مجلس وطني للغات و الثقافة المغربية
-
كما يمكن تحديد معالم ميثاق الحقوق و الحريات الأساسية التي يضمنها الدستور الحالي في عدد من نقاط القوة كتكريس سمو المواثيق الدولية كما صادق عليها المغرب على التشريعات الوطنية (مع اعتبار مخاطر الطابع النسبي لهذا السمو)، و كذا حظر و مكافحة كل أشكال التمييز و توسيع مجال الحقوق المدنية و السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية والثقافية و البيئية المضمونة دستوريا ، و تعزيز المساواة بين الرجل و المرأة بإقرار مبدأ المناصفة و إحداث هيئة للمناصفة و محاربة كل أشكال التمييز و إقرار مبدأ التمييز الإيجابي في مجال ولوج النساء إلى الوظائف الانتخابية.
-
دعم الدستور الحالي للمبادئ الأساسية للنظام التمثيلي عبر إقرار مبدأ حرية و نزاهة و شفافية الانتخابات و سمو الدستور و إحداث إمكانية الدفع بعد الدستورية
-
أما فيما يتعلق بتقوية الطابع البرلماني للنظام السياسي ، فقد كرس الدستور الحالي مبدأ الفصل بين السلط في إطار نظام ملكية دستورية، ديمقراطية و برلمانية ، مع اضطلاع الملكية بمهام سيادية و تحكيمية مع تمييز واضح بين مجال السلطات الدينية للملك بوصفه أميرا للمؤمنين و بين المجال الدنيوي للملك كرئيس للدولة و ممثلها الأسمى و كحكم و ضامن الاختيار الديمقراطي و المصالح الأساسية للبلاد. كما جعل الدستور التشريع اختصاصا حصريا للبرلمان ، و أرسى مبدأ الحكومة المنبثقة من البرلمان المنتخب تحت قيادة رئيس للحكومة يمارس سلطة تنفيذية فعلية. كما قوى الدستور أيضا اختصاصات البرلمان عبر توسيع مجال القانون ، و توسيع مهامه لتشمل مجال تقييم السياسات العمومية إلى جانب مهامه الكلاسيكية و إعادة تحديد التوازن بين غرفتي البرلمان لصالح مجلس النواب، و تخفيض الأنصبة les quorums على آليات المراقبة البرلمانية. و إقرار مبدأ أساسي للنظام البرلماني و المتمثل في التوازن المرن بين السلطة التشريعية و السلطة التنفيذية
-
كما ارتقى دستور 2011 بالقضاء إلى سلطة مستقلة في خدمة حماية الحقوق و الحريات الأساسية عبر إقرار الضمانات الأساسية للمحاكمة العادلة و المبادئ الأساسية لحقوق المتقاضين و كذا ضمانات استقلالية السلطة القضائية عبر صلاحيات المجلس الأعلى للسلطة القضائية و إحداث محكمة دستورية تسهر على سمو الدستور و مراقبة دستورية القوانين و النظر في الدفع بعدم الدستورية
-
و عزز الدستور الحالي آليات الديمقراطية التمثيلية و التشاركية و شبه المباشرة عبر ترسيخ الدور المركزي للأحزاب السياسية و وضع نظام لحقوق المعارضة البرلمانية و تكريس دور النقابات في مجال الديمقراطية الاجتماعية و دور المجتمع المدني و المنظمات غير الحكومية في مجال الديمقراطية التشاركية ،و دسترة دور الإعلام في النهوض بالديمقراطية و حقوق و حريات المواطنين و خلق فضاءات و آليات جديدة للتشاور و الديمقراطية التشاركية و شبه المباشرة (مثال : المجلس الاستشاري للشباب و العمل الجمعوي، الحق في الملتمسات في مجال التشريع، الحق في العرائض...)
-
أما في مجال الحكامة الترابية و الديمقراطية المجالية فقد كرس دستور 2011 ، الجهوية المتقدمة و مبادئها الأساسية ، مع إعطاء أسس دستورية قوية لإعادة تشكيل النظام الترابي و إحداث صندوق للتضامن بين الجهات و صندوق إعادة التأهيل الاجتماعي للجهات.
-
و تجدر الإشارة ضمن نفس الإطار إلى أن الدستور الحالي حدد عددا من القواعد الأساسية المتعلقة بالحكامة و تدبير المرفق العمومية ، كما منح وضعا دستوريا لعدد من المؤسسات الوطنية المستقلة و كذا الهيئات المختصة في مجال حماية الحقوق و الحريات و الحكامة الجيدة و التقنين و التنمية البشرية و المستدامة و الديمقراطية التشاركية.
-
سياق ما بعد 2011 : تحديات استكمال المسار الإصلاحي و فرص و تحديات المحيط الإقليمي المتغير
أقترح بهذا الخصوص تقديم التحديات المتعلقة باستكمال المسار الإصلاحي في علاقة بفرص و تحديات المحيط الإقليمي المتغير. و سأقدم مثالين دالين على هذه التحديات. ذات العلاقة المباشرة بالمحيط الإقليمي المتقلب.
-
تحدي بناء سياسات اجتماعية متكاملة و مندمجة
و ينبغي من وجهة نظري إدراك هذا التحدي بشكل خاص انطلاقا من عدد من المكتسبات الجوهرية، يمكن التدليل على أهمها بوتيرة الإنفاق العمومي على القطاعات الاجتماعية حيث انتقلت حصة الميزانية العامة للدولة المخصصة للقطاعات الاجتماعية من 41 بالمائة إلى 55 بالمائة بين 1999 و 2014 و بتحسن مستوى عيش السكان بنسبة 3،3 بالمائة بين 2001 و 2014، و ارتفاع حصة 10 بالمائة من الأسر الأقل غنى في الاستهلاك الإجمالي بنسبة 7،7 بالمائة و انخفاض حصة 10 بالمائة من الأسر الأكثر غنى في من الاستهلاك الاجمالي بنسبة 5،4 بالمائة. كما ينبغي التذكير في هذا الصدد بانخفاض نسبة الفقر المطلق على المستوى الوطني من 15،2 بالمائة سنة 2001 إلى 4،2 بالمائة سنة 2014.
ويطرح اليوم بشكل خاص تحدي توزيع ثمار النمو على الفئات الاجتماعية الأكثر فقرا و على الجهات الأقل تجهيزا مع ضمان الطابع الأفقي لقضايا النوع و المساواة سواء على مستوى السياسات العمومية الوطنية أو على مستوى السياسات العمومية للجماعات الترابية. و لقد بلور المغرب إلى غاية الوقت الحالي عددا من إجابات السياسات العمومية تمثلت بالخصوص في المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، و البرنامج الوطني الموجه لمعالجة بعض أوجه الخصاص بالنسبة لساكنة العالم القروي ، و مسار البرمجة الموازناتية المبنية على النوع الاجتماعي و خطة العمل الوطنية للطفولة و إحداث صندوق التماسك الاجتماعي و آليات التخطيط التشاركي الجديدة المنصوص عليها في القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية و النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية، و السياسة العمومية المندمجة للشباب.
غير أن آفاق هذا النموذج و إن كانت واعدة على المستوى الداخلي، فإنها تواجه تحديات على المستوى الإقليمي تتمثل على الخصوص في تحمل تكلفة آثار التدبير الدولي (سواء الأممي أو المتعدد الأطراف) غير المنسجم لعدد من الأزمات الإقليمية (ليبيا، مالي، ...)، و الاستثمار الضروري في الحلول الأمنية الوقائية و الدفاعية (تحدي مكافحة الإرهاب)، و مساعي الجوار (الجزائر و البوليساريو) الهادفة إلى عرقلة المجهود الاستثماري و التنموي بالأقاليم الجنوبية، عبر افتعال قضايا وهمية تتعلق ب"استغلال الموارد الطبيعية" و قضايا "المسؤولية الاجتماعية و البيئية و الأخلاقية" المتعلقة بالاستثمار الخارجي في الأقاليم الجنوبية، في حين يقدم النموذج الجديد للأقاليم الجنوبية عناصر إجابة عملية وفي غاية الجدية على كل هذه القضايا. باعتباره مؤسسا على أربعة مبادئ أساسية: التنمية البشرية الإدماجية و المستدامة، مشاركة الفاعلين ذوي الصفة التمثيلية، و الساكنة المحلية في كل مراحل إعداد و تفعيل البرامج التنموية بالجهة، احترام فعلية حقوق الإنسان للمواطن، و دعم مكانة الدولة في دورها كمنظم و ضامن للقانون.
-
تحدي استكمال المنظومة الوطنية المتعلقة بحماية حقوق الإنسان و النهوض بها
يتمثل التحدي الثاني في الاستمرار و الإسراع بأجرأة المقتضيات الدستورية و التزاماتنا الاتفاقية المتعلقة بحقوق الإنسان.
و يعني ذلك بالخصوص استحضار الأولويات المتعلقة بملاءمة التشريعات الوطنية مع القانون الدولي لحقوق الإنسان، و إعطاء الأولوية في الوقت الراهن للتشريع في المجالات التي تشكل نقط ضعف في منظومة الحماية القانونية و القضائية و شبه القضائية في مجال حقوق الإنسان، و ذلك عبر تعديل المنظومة الجنائية المادية و المسطرية خاصة المقتضيات المتعلقة بالحراسة النظرية و التعذيب و مكافحة الإرهاب، و شروط دخول و إقامة الأجانب، و التمييز و الاتجار في البشر ، و مكافحة العنف ضد النساء و تعديل منظومة الحريات العامة خاصة المتعلقة بالجمعيات و التظاهر السلمي و الصحافة و تقوية اختصاصات المجلس الوطني لحقوق الإنسان و باقي مؤسسات حماية حقوق الإنسان و النهوض بها.
و هناك حاليا أوراش مفتوحة واعدة تتعلق بتعديل التشريع الجنائي، و الإطار القانوني لمكافحة العنف ضد النساء و الإطار القانوني المتعلق باللجوء و مكافحة الاتجار في الأشخاص و ضمان استقلال السلطة القضائية، و قانون الصحافة كما أن هناك نقاشا مؤسساتيا و مجتمعيا مفتوحا بخصوص حرية الجمعيات و التظاهر السلمي، و تعرف بلادنا حاليا مساريتقدم شيئا فشيئا للأجرأة القانونية و العملية لآليات الديمقراطية التشاركية على المستويين الوطني و الترابي. غير أن هذا لا ينفي وجود حالات محدودة تتعلق بانتهاك الحريات العامة، و لكن بلادنا تتوفر بالمقابل على قضاء مستقل قام في كثير من الأحيان بإنصاف الجمعيات أو الأفراد الذين تعرضوا لقيود تتعلق بممارسة الحريات العامة.
غير أن هذه الصورة التي تعكس مسارا لبلد يتقدم بخطوات ثابتة وواثقة في طريق التثبيت الديمقراطي ، تنبغي قراءتها على ضوء التحديات الإقليمية التي قد تهدد هذا النموذج، و على سبيل المثال فإن تحديات مكافحة الإرهاب أدت بالعديد من الدول الديمقراطية إلى وضع تشريعات تقييدية للحقوق و الحريات (ضدا على المرتكز الرابع للاستراتيجية المندمجة في مجال مكافحة الإرهاب، حيث ينص هذا المرتكز على ضرورة احترام و حماية حقوق الإنسان في سياق مكافحة الإرهاب)، و هو ما قد يؤثر بشكل غير مباشر على مسار تطور نموذجنا الحقوقي الوطني، كما أن الاستعمالات السياسية للقضايا الحقوقية من قبل عدد من المنظمات الدولية و حتى من قبل جوارنا الصعب، لا يساعد على تقوية آليات التملك الوطني للتحولات التي أشرت إليها في المجال الحقوقي.
و ضمن نفس المنطق، فإذا كان المغرب قد وضع منذ 2013 عناصر سياسة إنسانية جديدة في مجال الهجرة ، فإن تدبير التدفقات الهجروية و النازحين من دول تعرف نزاعات، يطرح تحديا فيما يتعلق بالقدرة المالية و التنظيمية و الإدارية على تدبيرها. و في هذا المجال بالذات، يبدو أن سياسات الهجرة المنتهجة على مستوى الاتحاد الأوربي في علاقة بشركائها و من بينهم المغرب، لا تقدم حلولا ملائمة لهذا التحدي.
تلكم، أيتها السيدات و السادة، بعض عناصر قراءة المسار الإصلاحي المغربي في محيط إقليمي متغير مطبوع بهيمنة حالة لافتو من اللايقين Incertitude . علما أن بلادنا التي تقوم بتدبير مسار التثبيت الديمقراطي لنموذجها في محيط مضطرب، تحاول في نفس الوقت تقديم عناصر إجابة في صورة سياسات عمومية على التحديات الاستراتيجية المتعلقة بالتنمية المستدامة سواء في المجال الطاقي (الطاقات المتجددة) أو في مجال الأمن الغذائي (مخطط المغرب الأخضر). و هكذا سيكون على بلادنا في آن استكمال التثبيت الديمقراطي لنموذجها في محيط صعب على المدى المتوسط، و الإجابة في الآن نفسه على تحديات مستقبلية تتعلق بالطاقة و البيئة و التنمية المستدامة.
شكرا على انتباهكم . أنا الآن جاهز للمناقشة والتفاعل معكم.