حضرات السيدات والسادة
في مستهل هذه الكلمة الافتتاحية المقتضبة، أود أن أعبر باسمكم جميعا عن اعتزازنا بالرعاية الملكية السامية لأشغال هذا المنتدى، وبقوة وأهمية التوجيهات الواردة في الرسالة الملكية السامية التي استمعنا اليها، لعلها تشكل بوصلة نهتدي بها في الاضطلاع بأمانة المسؤولية التي تطوق اعناقنا جميعا .
وأشكركم جميعا على الحضور والمشاركة في فعاليات هذا المنتدى البرلماني الثالث للعدالة الاجتماعية وأرحب بضيوفنا الكرام القادمين من في بلدهم الثاني المغرب.
حضرات السيدات والسادة
دون الخوض في الاعتبارات المعيارية والمؤسساتية حول دواعي اختيار موضوع هذه النسخة، أود في البداية أن أنوه إلى أن تنظيم هذه اللقاءات والمنتديات من قبل مجلس المستشارين ليس من باب الترف الفكري أو الحلول محل مؤسسات البحث والتفكير في القضايا الإستراتيجية المطروحة على جدول أعمال بلادنا، ولكن يتعلق الأمر بالدرجة الأولى بالاحتضان المؤسساتي لانشغالات وهموم وتطلعات المواطنات والمواطنين وإعمال النظر بشأنها.
ان هذا المنتدى وغيره من الفعاليات والمبادرات التي أطلقها المجلس تندرج في إطار الطموح الذي يحدو كافة مكوناته الى استثمار أمثل للأدوار الدستورية المناطة بمجلس المستشارين، والى الاستثمار في تعدد وتنوع تركيبته، من أجل الإسهام الملموس، عبر مقترحات عملية، في إيجاد الأجوبة على مطالب وانتظارات، ليس فقط التعبيرات والديناميات الاحتجاجية التي تظهر هنا وهناك، ولكن أيضا الاسهام في تقديم حلول واجابات للانتظارات والمطالب المشروعة لشرائح عريضة من المواطنات والمواطنين ممن يعانون بصمت.
وفي ارتباط بموضوع هذه النسخة الثالثة من المنتدى البرلماني للعدالة الاجتماعية،موضوع " رهانات العدالة الاجتماعية والمجالية ومقومات النموذج التنموي الجديد"، والذي وقع الاختيار عليه في سياق تجاوب وتفاعل مجلس المستشارين مع مضامين الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح السنة التشريعية الجارية والذي دعا فيه جلالته، حفظه الله، الحكومة والبرلمان وغيرهما من المؤسسات الى المبادرة من أجل تجاوز العقبات التي تعرقل تطور النموذج التنموي الوطني وتقديم الحلول للاختلالات التي تحد من فعاليته، فان طموح المجلس المزدوج هو ، من جهة أولى ، لم المؤسسات والقطاعات والمنظمات والخبراء للتفكير الجماعي في الأولويات الوطنية القصوى المطروحة على جدول أعمال بلادنا ، وفي مقدمتها أولوية البناء التشاركي للنموذج التنموي الجديد. ومن جهة ثانية، مواصلة العمل في سياق الاضطلاع بشرف التكليف الملكي السامي لمجلس المستشارين المتضمن في الرسالة الملكية السامية التي وجهها جلالته للمشاركين والمشاركات في المنتدى البرلماني الثاني للعدالة الاجتماعية الذي احتضنته هذه القاعة بتاريخ 20 فبراير 2017 حينما " دعا مجلس المستشارين الى متابعة مسار البناء التشاركي للنموذج المغربي للعدالة الاجتماعية، عبر تنظيم حوارات ومنتديات واستشارات قطاعية وموضوعاتية مع كل الفاعلين المعنيين ، واستثمار حصيلة هذه الأعمال في اعداد الدورات المقبلة لهذا المنتدى البرلماني".
وبناءا على هذا التذكير: أعني تذكير جلالة الملك في الرسالة السامية المشار اليها بضرورة استثمار حصيلة هذه الأعمال، يجدر بي ان اشير الى ان لدينا رصيدا على درجة كبيرة من الأهمية يمكننا من ارتياد آفاق رحبة لإنجاز هذا الطموح الوطني: طموح البناء التشاركي للنموذج المغربي للعدالة الاجتماعية.
فبالإضافة الى المحددات والتوجيهات النيرة التي ما فتئ جلالة الملك يذكرنا بها في خطبه السامية وكذا المرجعيات ذات القيمة المعيارية الدستورية والوطنية و أيضا باستحضار الدلالات العميقة للاحتفال باليوم العالمي للعدالة الاجتماعية وما يرتبط به من مرجعيات أممية، يجدر استحضار تعاضد وترابط المقترحات المتضمنة في "الوثيقة المرجعية بشأن معالم النموذج المغربي للعدالة الاجتماعية" و"إعلان الرباط للعدالة الاجتماعية"، و"المبادئ التوجيهية من أجل إعادة بناء المنظومة الوطنية للحوار الاجتماعي" ، وكذا الرؤية المتضمنة في «الورقة المنهجية التنفيذية بشأن النموذج المغربي للعدالة الاجتماعية" التي أعدها واعتمدها مكتب مجلس المستشارين، وهي جميعها وثائق منبثقة عن المنتديات السابقة وهي متضمنة في الملف الموزع على حضراتكم.
حضرات السيدات والسادة
لقد شكل تحقيق العدالة الاجتماعية في بعدها المجالي، غاية النموذج التنموي المغربي، ونواته الصلبة، وهو أمر ما فتئ جلالة الملك يوجه كافة الفاعلين المعنيين إلى استحضاره بشكل دائم ،
ذلك أن النموذج التنموي المغربي الذي نطمح اليه جميعا، والذي هو قيد إعادة النظر والبناء التشاركيين، يتأسس على العدالة الاجتماعية، وعلى ضمان الولوج الفعلي إلى الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، وعلى المساواة بين الجنسين، وعلى إيلاء الأولوية القصوى للفئات الهشة وللإدماج الاقتصادي والاجتماعي للشباب عبر التكوين والتشغيل وإيجاد حلول عملية لمشاكلهم الحقيقية، وخاصة في المناطق القروية والأحياء الهامشية والفقيرة. وهي أسس لن تجد تجسيدها الواقعي إلا عبر هدفين متلازمين ومترابطين: الحد من الفوارق الطبقية ومعالجةالتفاوتات المجالية.
غير أن تحقيق هذين الهدفين يتوقف على الالتزام، رؤية، وبرمجة، وتنفيذا، ومتابعة، وتقييما، بأن يجد النموذج التنموي الوطني أبعاده الخاصة بكل مجال ترابي في انسجام مع الرؤية الشاملة التي يقوم عليها النموذج الوطني، كما يتطلب أيضا استثمارا أقصى لكل الإمكانيات التي تتيحها المنظومة القانونية الجديدة للجماعات الترابية، وتنشيط آليات التمثيل والوساطة والآليات التشاركية على المستوى الترابي.
حضرات السيدات والسادة
ان هذه الرؤية التي تربط بين العدالتين الاجتماعية والمجالية، بوصفها أساس النموذج التنموي المغربي قيد البناء، تجد مرتكزاتها المعيارية على الخصوص في أحكام الفقرة الثالثة من الفصل 35 من الدستور التي تحدد طبيعة الالتزام الإيجابي للدولة بالعمل على " تحقيق تنمية بشرية مستدامة، من شأنها تعزيز العدالة الاجتماعية"، وهو التزام يأتي إعمالا لاختيار العدالة الاجتماعية كإحدى دعامات المجتمع المتضامن، المحددة عناصره في التصدير الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من الدستور.
ان هذه الالتزامات الإيجابية والأهداف ذات الطبيعة الدستورية ينبغي إدراكها في علاقة بالمبادئ الدستورية المتعلقة بالجهات والجماعات الترابية لا سيما مبادئ التدبير الحر، والتعاون، والتضامن، والتفريع، ومشاركة السكان في تدبير شؤونهم بوصفها مبادئ للتنظيم الترابي، ومساهمة الجهات وباقي الجماعات الترابية في تفعيل السياسة العامة للدولة وفي إعداد السياسات الترابية من خلال ممثليها في مجلس المستشارين.
ودون إضاعة الوقت في التذكير بالأسئلة والتحديات الكبرى التي يطرحها الموضوع الذي اختير لهذا المنتدى وهي أسئلة وتحديات جرت الإشارة الى خطوطها العريضة في الأرضية التأطيرية الموجودة بين أيديكم، فإننا نعتقد جازمين أن رفع تحدي استثمار الإمكانيات المعيارية المشار اليها يتوقف على تقديم إجابات ذكية و مبتكرة على عدد من الأسئلة العملية :
كيف يمكن استثمار برامج التنمية الجهوية، والتصاميم الجهوية لإعداد التراب، وآليات الشراكة بين القطاعين العام والخاص، والتعاون اللامركزي، والآليات التشاركية للحوار والتعاون، والآليات الجهوية لتنفيذ المشاريع والبرمجة المالية متعددة السنوات، من أجل بناء نماذج تنموية على المستوى الترابي، تضمن تحقيق أهداف النموذج التنموي الوطني؟ كيف يمكن استثمار آليات التشخيص والتخطيط الترابيين من أجل الحد من التفاوتات الاجتماعية والاختلالات المجالية على المستوى الجهوي وفيما بين الجهات، وكيف يمكن إعمال آليتي صندوق التأهيل الاجتماعي وصندوق التضامن بين الجهات لتحقيق هذه الأهداف، خاصة عبر تعبئة الموارد المالية الضرورية لهذا الغرض؟
وفي سياق بحث هذه التحديات وغيرها مما ورد في الأرضية التأطيرية التي بين أيديكم نأمل أن يهتدي المشاركون والمشاركات في هذا المنتدى الى أهمية وضرورة عدم اهدار الطاقة والجهد في إعادة انتاج التشخيصات والتقييمات، فلدينا ما يكفي منها ويزيد.
ان نوعية الإجابات العملية التي ستتمخض عن أشغال المنتدى، ستشكل، بدون شك، إسهاما قيما في مسار إعادة بناء النموذج التنموي الوطني الذي يريده جلالة الملك ونريده خطوة أرقى في الاستجابة للتطلعات المشروعة للمواطنات والمواطنين في مجالات التنمية والتعليم والصحة والشغل وغيرها من الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية التي أقرها الدستور، والحد من الفوارق المجالية التي تشكل عائقا أمام تحقيق هذه المقاصد.
حضرات السيدات والسادة
من الضروري أن نستحضر في سياق التفكير، عددا من المتطلبات المنهجية، التي نعتقد أن من المهم والضروري أخذها في الحسبان كي نضمن حدا معقولا من التماسك المنهجي للمقترحات والتوصيات المنتظرة.
تتمثل أولى هذه المتطلبات في الاستثمار الأمثل للتوصيات الوجيهة الواردة في تقرير 50 سنة من التنمية البشرية وآفاق سنة 2025 و خاصة منها ما يتعلق برهانات المستقبل في إطار السيناريو المأمول في أفق "السير نحو 2025"، و كذا التوصيات الوجيهة الأخرى الصادرة في تقارير وآراء ودراسات المؤسسات الدستورية ذات الطابع الاستشاري، لاسيما منها المجلس الاقتصادي و الاجتماعي و البيئي، وأهمها التوصيات الواردة في الدراسة التي اعدها المجلس وبنك المغرب بشأن الرأسمال غير المادي، وخصوصا التوصيات المرتبطة بالرافعات السبع للصعود المجتمعي المنصف ، والتوصيات العديدة التي أصدرها المجلس الوطني لحقوق الانسان والمجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي والتوصيات الواردة في تقارير اللجنة الاستشارية للجهوية، بما يضمن من جهة، ترصيد هذه التوصيات، ويتجاوز، من جهة أخرى، إعادة إنتاج التشخيصات، إلى تقديم إجابات ذات طابع عملي وإجرائي تتعلق بموقع العدالة الاجتماعية والمجالية في النموذج التنموي المغربي المأمول.
أما المتطلب الثاني، فيتمثل في استحضار المبدأ الدستوري للمساواة بين الجنسين، وإعمال مقاربة حقوق الإنسان، واستلهام المرجعية الأممية المتعلقة بالمنظومة الدامجة للعدالة الاجتماعية، لا سيما خطة التنمية المستدامة لعام 2030 المعنونة "تحويل عالمنا". بالإضافة الى الأجندات الأممية الجديدة ذات الصلة وخاصة أجندة ما يعرف بأرضية الحماية الشاملة والعدالة المناخية والأجندة الأممية قيد الإعداد بشأن الدخل الأدنى الشامل. ان هذا المتطلب، يشكل احترامه، شرطا منهجيا أساسيا لنجاح أي تفكير عملي في التقائية السياسات العمومية القطاعية والأفقية والترابية.
ويتمثل المتطلب الثالث، في ضرورة البناء على ما حققناه في تجربتنا الوطنية من تراكم سواء من خلال استثمار ما أنتجته مؤسساتنا الدستورية والوطنية والقطاعات الحكومية من استراتيجيات وخطط وبرامج واقتراحات وتوصيات او من خلال ترصيد التوصيات والاقتراحات المتضمنة في الوثائق المنبثقة عن الملتقيات والمنتديات التي سبق لمجلس المستشارين تنظيمها، وأساسا تلك الواردة في "الوثيقة المرجعية بشأن معالم النموذج المغربي للعدالة الاجتماعية" و"إعلان الرباط للعدالة الاجتماعية"، ووثيقة "المبادئ التوجيهية من أجل إعادة بناء المنظومة الوطنية للحوار الاجتماعي" المنبثقة عن النسخة الثانية من المنتدى ، من أجل تقديم مقترحات عملية تهدف إلى إعادة بناء النسيج الوطني للوساطة الاجتماعية والترافع والمشاركة المواطنة من أجل نقل أصوات الديناميات الاجتماعية المتنوعة في مختلف ربوع الوطن إلى فضاء التخطيط التشاركي للسياسات العمومية القطاعية و الترابية و الأفقية، بوصف ذلك شرطا ضروريا لضمان الطابع الدامج للنموذج التنموي المغربي قيد البناء.
حضرات السيدات والسادة
أود في نهاية هذه الكلمة الافتتاحية أن اجدد الترحيب بكم وأن أشكركم على حسن اصغائكم والسلام عليكم.