تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

مداخلة السيد رئيس مجلس المستشارين في المنتدى البرلماني حول العدالة الإجتماعية

2016-02-19

بسم الله الرحمان الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

 

أيها السيدات والسادة،

        اسمحوا لي، وبعد الرسالة الملكية التاريخية التي وضعت معالم رؤية متكاملة لنموذج مغربي للعدالة الاجتماعية، ووضعت من ثم إطارا مفاهيميا واضحا لأشغالنا، أن أذكر ببعض الدواعي التي حذت بمجلس المستشارين إلى تنظيم  المنتدى البرلماني  للعدالة الاجتماعية.

 

        ذلك أن تنظيم المنتدى جاء استثمارا لثلاث فرص فريدة : الأولى مؤسساتية والثانية معيارية، والثالثة   مرتبطة ببعض مكتسبات السياسات العمومية.  

 

        وتتمثل الفرصة الأولى في الموقع  المؤسساتي لمجلس المستشارين كغرفة برلمانية تتميز بتعدد التخصصات والتمثيليات الترابية والمهنية والنقابية، وتتوفر على جميع مقومات الأداء الناجح لدورها كغرفة تترجم بدقة تطلعات المجالات الترابية والفاعلين المهنيين والنقابيين والمدنيين، و هو ما يجعلها "الفضاء الطبيعي" للنقاش العمومي بشأن قضايا وأسئلة العدالة الاجتماعية، لارتباطها الوثيق بالولوج إلى الحقوق الاقتصادية  والاجتماعية والثقافية والبيئية.

 

        ولقد تم تأكيد هذه الفرصة المؤسساتية الفريدة في الخطاب الملكي السامي بمناسبة افتتاح الدورة الأولى من السنة التشريعية الخامسة من الولاية التشريعية التاسعة بمقر البرلمان، حيث أكد جلالة الملك أن الدستور قد أعطى " لمجلس المستشارين مكانة خاصة في البناء المؤسسي الوطني، في إطار من التكامل والتوازن مع مجلس النواب. فهو يتميز بتركيبة متنوعة ومتعددة التخصصات، حيث يضم مجموعة من الخبرات والكفاءات ، المحلية والمهنية والاقتصادية والاجتماعية. لذا، يجب أن يشكل فضاء للنقاش البناء، وللخبرة والرزانة والموضوعية، بعيدا عن أي اعتبارات سياسية."

 

 

 

       

 

        ولقد تم إدراك هذه الفرصة المؤسساتية حق الإدراك، لما حدد مجلس المستشارين هدفا ثالثا في خارطة طريقه الإستراتيجية، يتمثل في جعل المجلس فضاء للحوار العمومي والنقاش المجتمعي التعددي، لاسيما بخصوص الموضوعات الرئيسية لإعمال الدستور وتحقيق الطابع الفعلي للتمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.

 

        أما الفرصة الثانية فهي ذات طابع معياري وتتمثل في دستور بلادنا الذي يتضمن مبادئ والتزامات إيجابية Obligations positives وكذا أهداف ذات قيمة دستورية تندرج جميعها في غاية تحقيق العدالة الاجتماعية، بدءا من تصدير الدستور إلى القواعد الأفقية الضامنة للعدالة الاجتماعية وكذا الآليات ذات الطبيعة المعيارية التي تساعد على برمجة وإعداد السياسات العمومية. كما ينبغي التذكير بالطبيعة المعيارية، التي لا غبار عليها، للالتزامات الدستورية الإيجابية المتعلقة بحماية الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لفئات عمرية ومجتمعية، تحقيقا للطابع الإدماجي للعدالة الاجتماعية.

       

وتتمثل الفرصة الثالثة في المكتسبات المحققة من منظور هندسة السياسات العمومية الموجهة لتحقيق العدالة الاجتماعية، كالمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، وبرنامج التنمية الموجه لساكنة العالم القروي الذي تم الإعلان عنه في خطاب عيد العرش ل 30 يوليوز 2015، ومسار البرمجة الموازناتية المبنية على النوع الاجتماعي، وخطة العمل الوطنية للطفولة، وإحداث صندوق التماسك الاجتماعي، وآليات التخطيط التشاركي الجديدة المنصوص عليها في القوانين التنظيمية المتعلقة بالجماعات الترابية، وكذا في النموذج التنموي للأقاليم الجنوبية، وفي مشروع الميثاق الاجتماعي الذي أعده المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي. 

 

        إن هذه الفرص هي  أوضح المؤشرات على نضج تجربتنا الوطنية، وهو نضج يضعنا اليوم، كما جاء في الرسالة الملكية السامية، أمام مسؤولية إطلاق مسار بناء تشاركي لنموذج مغربي للعدالة الاجتماعية. 

 

 

 

 أيها السيدات والسادة،

        أود أن أذكر، بشكل مختصر، بسياقات دولية تشكل رافعات قوية لمجهودنا الجماعي لبناء نموذج مغربي للعدالة الاجتماعية، وهي رافعات تندرج في إطار تطور القانون الدولي لحقوق الإنسان وكذا في إطار تطور الأجندات المهيكلة لسياسات وأهداف وأولويات التنمية المستدامة على المستوى الدولي.

 

        ولأني أتحدث أمام مختصين، فإني لن أذكر بالرصيد الوثائقي الأممي الذي يرتب على بلدنا مجموعة من الالتزامات، باعتباره طرفا فاعلا ومتفاعلا مع الأسرة الدولية ومع أجنداتها الأممية، فهو موجود بين أيديكم في الأرضية التأطيرية لهذا المنتدى. ولذلك أكتفي بالتذكير بالدور المرجعي الذي يمكن أن تلعبه الملاحظات الختامية لهيئات المعاهدات والتوصيات الموجهة إلى بلادنا من طرف أصحاب الولايات برسم المساطر الخاصة أو في إطار الاستعراض الدوري الشامل، وهي ملاحظات وتوصيات يمكن أن تشكل موجهات لسياساتنا العمومية، خاصة منها تلك الموجهة نحو تحقيق الطابع الفعلي للتمتع بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية.

 

        وضمن نفس الإطار، ينبغي أن أذكر السيدات والسادة الحاضرين بالأثر المزدوج الذي يمكن أن يشكله كل ما أنتجته منظمة العمل الدولية حول مفهوم ومتطلبات العمل اللائق وكذا المبادئ التوجيهية بشأن الأعمال التجارية وحقوق الإنسان لتنفيذ إطار الأمم المتحدة المعنون "الحماية والاحترام والانتصاف"، التي أقرها مجلس حقوق الإنسان بتاريخ 16 يونيو 2011 كموجهات لجيل جديد من التشريع الوطني في المجالين المذكورين، وهي موجهات يسهل عمل المؤسسات الدستورية الوطنية، كالمجلس الاقتصادي  والاجتماعي والبيئي والمجلس الوطني لحقوق الإنسان والمجلس الأعلى للحسابات، تملكها في السياق الوطني.

 

 

 

 

        وأود، ضمن نفس المنطق، تذكيركم بكون الرسائل السنوية التي يوجهها الأمين العام للأمم المتحدة بمناسبة اليوم العاملي للعدالة الاجتماعية بتاريخ 20 فبراير من كل سنة ، غالبا ما تتضمن، ليس فقط تفسيرا للمنظور الأممي للعدالة الاجتماعية وإطارها المفاهيمي، وإنما أيضا ترافعا حول أولويات دولية للعدالة الاجتماعية، تتقاطع إلى حد كبير مع أولوياتنا الوطنية. من ذلك مثلا، ربط رسالة الأمين العام للأمم المتحدة سنة 2011 بين الاستقرار الوطني والعالمي وتكافؤ الفرص والإدماج الاجتماعي والتقليل من مخاطر الاضطرابات الاجتماعية، وإشارته في رسالته لسنة 2014 إلى عدم كفاية النمو الاقتصادي إذا لم يتم "تمكين الأفراد عن طريق توفير فرص العمل الكريم، ودعم الناس من خلال توفير الحماية الاجتماعية، وكفالة سماع أصوات الفقراء والمهمشين"، وإثارته سنة 2013 لمسألة "تناقص أجور النساء والشباب، وقلة فرص الحصول على التعليم والخدمات الصحية والعمل اللائق"، وربطه سنة 2012 بين العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة.

 

         ولست في حاجة إلى التذكير أيضا بكون الأهداف السبعة عشر المحددة في خطة التنمية المستدامة لعام  2030، المعنونة "تحويل عالمنا"، والمعتمدة بمقتضى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة 1.70 بتاريخ 25 سبتمبر 2015، ترتبط جميعها بمفهوم العدالة الاجتماعية، علما أن الخطة المذكورة أعلن عن انطلاق العمل بها في فاتح يناير من السنة الجارية.

 

أيها السيدات والسادة،

       إن البرلمان الذي لا يتفاعل مع ديناميات المجتمع وتطلعات فئاته المختلفة هو برلمان ليس جديرا بهذا الإسم. ومن هذا المنطلق يبادر مجلس المستشارين إلى تنظيم هذا المنتدى البرلماني الدولي للعدالة الاجتماعية، احتفاء باليوم العالمي للعدالة الاجتماعية الذي يصادف يوم 20 فبراير.

       والرسالة هي أنه، بينما تشهد العديد من البلدان تفاقم حالة من اللايقين، مؤثثة باتساع مساحات التمزقات والصراعات بسبب هشاشة مؤسساتها وعدم قدرتها على التجاوب مع تطلعات مواطنيها، تمضي بلادنا بثبات، تحت القيادة الرشيدة لجلالة الملك، على درب إيجاد أجوبة مؤسساتية لأدق المعضلات وأكثرها تعقيدا وحساسية.

 

وبتنظيم هذا المنتدى البرلماني الدولي، الأول من نوعه، يسعى مجلس المستشارين إلى التفاعل مع ديناميات المجتمع المغربي ومع أسئلة وتطلعات المواطنات والمواطنين المغاربة، كما يسعى إلى التفاعل الايجابي والبناء مع أجندات الهيئات الأممية التي نحن جزء منها، وإلى الوفاء بالتزامات بلادنا الدولية.

أيها السيدات والسادة،

        آمل أن نستفيد جميعا من تنوع تخصصات المشاركات والمشاركين  وتعدد مواقعهم المؤسساتية، سواء على المستوى الدولي أو الوطني، من أجل أن نتقدم في طريق البناء التشاركي للنموذج المغربي للعدالة الاجتماعية، بالارتكاز على الفرص الجديدة التي يتيحها دستور بلادنا، وعلى مكتسبات المبادرات الوطنية الرائدة في هذا المجال، وكذا التزامات المغرب الاتفاقية، وذلك في تكامل تام مع أجندات التنمية المستدامة والتنمية الاجتماعية والعدالة الاجتماعية على المستوى الأممي.

 

       وفي إطار هذا الطموح، طموح الملك والشعب معا، نأمل أن تفضي فعاليات هذا المنتدى إلى تقديم عناصر أجوبة واضحة  على  التحديات  المتعلقة بالتضامن في كل أبعاده، وبإقرار المساواة الفعلية بين الرجال والنساء، وبتوسيع مساحات إعمال قيم الإنصاف وتكافؤ الفرص، وبجعل النمو الاقتصادي في خدمة العدالة الاجتماعية والتماسك الاجتماعي والإدماج، وبضمان التقائية السياسات العمومية القطاعية  والترابية، وباستثمار الفرص الجديدة لتنظيم الجماعات الترابية، وبكيفيات ترصيد وتوسيع المكتسبات الوطنية في مجال الحماية الاجتماعية ومكافحة الفقر، وكذا بتقوية المكتسبات الوطنية في مجالات الحوار الاجتماعي  والديمقراطية التشاركية، إضافة إلى كيفيات الحماية من الآثار الاجتماعية للتقلبات المناخية.

       

أتمنى أن تكلل أشغال هذا المنتدى بكامل النجاح، وأن تستثمر مخرجاته في بلورة مبادرات ملموسة على مستوى العمل البرلماني، سواء في مجالي التشريع والرقابة أو في مجال تقييم السياسات العمومية، وأعدكم بأن يستمر مجلس المستشارين في تقديم مساهمته النوعية في مسار البناء التشاركي للنموذج المغربي للعدالة الاجتماعية.