الرباط ـ 27 أكتوبر 2015
أيتها السيدات والسادة،
يشرفني أن أتقاسم معكم، إطار قراءة مقترحِ، لتحليل العلاقة الممكنة والمرجوة للجامعة بالجماعات الترابية وبصفة خاصة بالجهة في إطار الجهوية المتقدمة.
واسمحوا لي بداية أيها السادة المحترمون، أن أؤكد لكم أن مجلس المستشارين، وهو يشارككم أشغال هاته المناظرة الوطنية العلمية، يستحضر مسؤوليته في إطار الوظائف الجديدة التي خولها له دستور 2011، باعتباره، أي مجلس المستشارين، رجع الصدى لكل الانتظارات والحاجيات ذات الطابع المحلي، وفضاء حاضن لكل الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والمهنيين.
لذلك،فإننا نرى أن موضوع هذه المناظرة، التي نتمنى لأشغالها النجاح، يندرج ضمن اهتماماتنا وأولوياتنا.
لهذا الغرض، أقترح عليكم تناول علاقة الجامعة بالجهوية المتقدمة، انطلاقا من أربع رافعات، أوردتها الرؤية الاستراتيجية لإصلاح منظومة التعليم 2015 – 2030، وهي رافعات يمكن اعتبارها بمثابة مداخل:
-
الرافعة الثانية عشرة المتعلقة بتطوير نموذج بيداغوجي قوامه التنوع والانفتاح والنجاعة والابتكار؛
-
الرافعة الرابعة عشرة المتعلقة بالنهوض بالبحث العلمي والتقني والابتكار؛
-
الرافعة السادسة عشرة المتعلقة بملاءمة التعلمات والتكوينات مع حاجات البلاد، ومهن المستقبل والتمكين من الاندماج؛
-
والرافعة العشرون المتعلقة بالانخراط الفاعل في اقتصاد ومجتمع المعرفة؛
ففيما يتعلق بالرافعة الثانية عشرة فإن اعتماد نماذج المنظومات المتكاملة للتكوين والبحث، التي تأخذ في الاعتبار حاجات المجتمع من المعارف والكفايات والقيم، وحاجات سوق الشغل والمقاولة من الكفاءات والتأهيلات الملائمة وفق آليات تعاقدية لمختلف أنواع المساهمة المتبادلة بين الجامعة والمقاولة، يمكن أن تتم رعايتها من طرف الجهة، بوصفها مكلفة على المستوى الترابي بضمان انسجام برامج ومخططات التنمية. وهنا فإن وظيفة التخطيط الجهوي تلتقي مع المقوم الاستشرافي المشار إليها في الرافعة الثانية عشرة عبر إنجاز دراسات وفق تخطيط توقعي للمتطلبات المحلية والجهوية للمحيط الاجتماعي والاقتصادي وإدماج ثقافة المشاريع.
وفيما يتعلق بالرافعة الرابعة عشرة، فإن الجهات يمكن أن تتموقع كمصدر لتمويل البحث العلمي في إطار إستراتيجية تنويع هذه المصادر، كما أن الرؤية الإستراتيجية لإصلاح منظومة التعليم في هذه الرافعة بالذات تعطي الأولوية للبحث التدخلي، والذي يعتبر فائق الأهمية، لكونه يستجيب للحاجيات النوعية للجهات إلى الخبرة، سيما على مستوى التشخيص والتخطيط ووضع وتنفيذ وتقييم السياسات العمومية الجهوية. و لذا فإن الرافعة الرابعة عشرة أوصت بتمكين مؤسسات البحث بالتعليم العالي من وضع خطط عمل بشراكة مع الجهات والجماعات الترابية ومع مؤسسات دولية، في إطار التكامل بين السياسة الوطنية للبحث العلمي، والاختيارات العلمية الخاصة بالجامعات. وضمن نفس المنطق يتعين قراءة التوصية الواردة في إطار نفس الرافعة بشأن إحداث أقطاب جديدة للتنمية الاقتصادية والتكنولوجية، تكون مبنية على الشراكة والتعاون وعلى تشجيع التخصصات الذكية، من خلال مساعدة المؤسسات الجامعية والمقاولات على تقوية تخصصاتها في المجالات العلمية والصناعية، علما أن أجرأة هذه التوصية يعتبر من صميم الاختصاصات الذاتية للجهات.
وتبين الرافعة السادسة عشرة حجم الانتظارات التي تضعها الرؤية الإستراتيجية لإصلاح منظومة التعليم على الجهات في مجال الملاءمة بين التكوين وسوق الشغل وسياسات الإدماج المهني. ذلك أن الرؤية توصي بتأمين تنسيق دائم وأقوى بين مختلف قطاعات التكوين، وخصوصا القطاعات المعنية بالتكوين والتأهيل من أجل الشغل، بهدف تحقيق أفضل التقائية بين تدخلات وسياسات الإدماج؛ وذلك، على الخصوص، بإقامة شبكات محلية و جهوية للتربية والتكوين، على مستوى التعليم العالي، مع توسيع مهام هذه الشبكات لتضطلع بمهمة الوساطة في سوق الشغل، وربط تدخلاتها مع السياسة الترابية الجديدة التي ستنتهجها الجهات، و كذا التدبير الترابي للكفاءات.
وضمن نفس الإطار، فإن للجهة دور استراتيجي في تحقيق هدفين أساسيين للرافعة العشرون من الرؤية الاستراتيجية. يتعلق الأمر بتوفير شبكات متعددة بين مؤسسات التكوين المهني والتقني وبين الجامعات والمؤسسات الاقتصادية والمقاولات، و ذلك على أساس تقاسم ثقافة للإنتاج والابتكار، وتبادل المعرفة وتحويلها إلى منتوج قابل للاستثمار والتسويق؛ وهنا فإن ثنائي الجامعة و الجهة سيلعب دورا أساسا بوصف الجامعة منتجة للمعارف و لكون الجهة تشكل ضمانة تنسيق وانسجام السياسات العمومية على المستوى الترابي. أما الهدف الثاني الوارد في الرافعة العشرين فهو تشجيع إحداث بنيات حاضنة للمقاولات المبدعة داخل مؤسسات البحث والتكوين، لتمكين الطلبة الباحثين، حملة مشاريع إنشاء مقاولات، من استعمال الموارد البشرية للمؤسسة وتجهيزاتها، من أجل تحقيق مشاريعهم، وتمكينهم أيضا من الاستفادة من المساعدات والإرشادات التي تخولها هذه المؤسسات. و هنا لست في حاجة إلى تذكيركم ببعض التجارب الناجحة للبنيات الحاضنة للمقاولات (incubateurs ) التي أنشئت في بعض الجامعات المغربية منذ نهاية تسعينات القرن الماضي، وبداية القرن الواحد والعشرين، والتي نجح عدد منها بالاستثمار في مجالات تشكل ميزة تنافسية للاقتصاد المحلي و الجهوي و لا سيما عبر تثمين بعض المنتوجات المحلية و الجهوية.
أيتها السيدات والسادة،
اسمحوا لي الآن أن أذكركم بالإطار المعياري الجديد الذي يتيحه القانون التنظيمي رقم 111-14 المتعلق بالجهات، والذي يسمح بفتح أفق نوعي جديد في علاقة الجامعة بالجهة.
ودون أن أقوم بتحليل هذا الإطار بشكل تفصيلي، فإن أود التذكير بأن المبادئ الأساسية لاختصاصات الجهة المنصوص عليها في المادة 80 من القانون التنظيمي، بما فيها تحسين جاذبية المجال الترابي، أو تحقيق الاستعمال الأمثل للموارد الطبيعية، أو تيسير توطين الأنشطة المنتجة للثروة والشغل، أو الإسهام في تحقيق التنمية المستدامة أو العمل على تحسين القدرات التدبيرية للموارد البشرية، هي كلها مهام missions لا يمكن تحقيقها إلا بشراكة مع الجامعة بوصفها قطبا للتكوين والبحث العلمي و التطوير التكنولوجي و الابتكار.
و هكذا فإن جميع الاختصاصات الذاتية للجهة و المنصوص عليها في المواد 81 إلى 90 من القانون التنظيمي، تندرج كلها في هذا المنظور. وضمن نفس المنطق، فإن الدور المحوري للجامعة في الإعداد التشاركي لبرامج التنمية الجهوية والتصميم الجهوي لإعداد التراب لا يحتاج إلى برهنة لكونه بديهيا.
ومن هنا يتعين التفكير في هذه المرحلة التأسيسية، لانتدابات المجالس الجهوية الجديدة في مأسسة مشاركة الجامعة في آليات الحوار والتشاور، التي سترد في النص التنظيمي المشار إليه في المادة 86 من القانون التنظيمي، كما يتعين التفكير في آليات تعاقدية متعددة الأطراف، تضم الجامعة، سيما فيما يتعلق بممارسة الجهة مستقبلا للاختصاصات المشتركة المنصوص عليها في المواد 91 إلى 93 من القانون التنظيمي.
وتجدر الإشارة أيضا إلى أنه يتعين من منظورنا، إيلاء أهمية بالغة لمشاركة الجامعة في الهيئات الاستشارية التي ستحدث لدى مجلس الجهة بمقتضى المادة 117 من القانون التنظيمي، والتي تهم على التوالي المساواة وتكافؤ الفرص ومقاربة النوع، و قضايا الشباب والقضايا الجهوية ذات الطابع الاقتصادي والثقافي والبيئي.
أود أن أشير في الأخير، إلى أن مجلس المستشارين، خلال السنة الفارطة، عمل على تفعيل مقتضيات الفصل 101 من الدستور المتعلق بتقييم السياسات العمومية، حيث خصص موضوع تلك الجلسة السنوية لوضعية الحكامة الترابية، وكانت إحدى أبرز خلاصاته الأساسية، الحاجة إلى مأسسة إطار للتعاون والشراكة متعددة المستويات بين الجامعة والجهة، وفي هذا الإطار، فيمكن الاستفادة والاسترشاد بعدد من التجارب التي راكمت ما يكفي في مجال الشراكة الممأسسة والشاملة ومتعددة الأطراف، كما هو الشأن مثلا بالنسبة للاتفاقية الإطار للتعاون بين ندوة رؤساء الجامعات الفرنسية la Conférence des présidents d’université و بين جمعيات جهات فرنسا l’Association des régions de France ، والتي أبرمت سنة 2009 و كذلك تجربة منطقة الأندلس المتمتعة بالحكم الذاتي في الشراكة مع الجامعات الأندلسية المختلفة.
وفي الأخير، لا يفوتني أن أذكر ، بأن مجلس المستشارين، كما أراده المشرع الدستوري، هو صوت الجهات وكل الجماعات الترابية، وهو فضاء متنوع ومتعدد التمثيلية، التي تضم الفاعلين الاقتصاديين والاجتماعيين والمهنيين، و لذا يمكن لكم جميعا أن تعولوا على دعم مجلس المستشارين في احتضان كل النقاشات العمومية التي تهم هذا الموضوع، وغيره، وأن تعولوا عليه كذلك في الترافع حول هذه الرؤية والعمل على أجرأتها وتملكها من قبل الجميع.
تلكم أيتها السيدات و السادة بعض الأفكار التي أود تقاسمها معكم، و أتمنى لأشغال الندوة كامل النجاح.