حضرات السيدات والسادة،
يشرفني في مستهل هذه الكلمة الافتتاحية أن أرحب بكم جميعا في رحاب مجلس المستشارين، وأن أجدد التأكيد على أن استجابة المجلس لطلب احتضان هذا الملتقى تندرج ضمن فلسفة وروح إستراتيجية عمل المجلس برسم الفترة 2016-2018، لاسيما الهدف الإستراتيجي الثالث منها الذي يهم جعل مجلس المستشارين فضاء حاضنا للنقاش العمومي و الحوار المجتمعي التعددي.
وأود في البداية أن أتوجه بالشكر للمركز الدولي للوساطة والتحكيم بالرباط وكافة الشركاء على تنظيم هذا الملتقى الأول من نوعه حول "البنوك التشاركية في المغرب"، مما سيتيح لا محالة إمكانية استشراف أهم الرهانات والتحديات التي تواجهها هذه الفئة من البنوك، وإيجاد عناصر إجابة معيارية لسؤال تسوية منازعاتها.
حضرات السيدات والسادة،
يتوفر السوق البنكي المغربي على مجموعات بنكية كبرى تقوم بدور هام داخل المغرب وخارجه، يمكن إجمالها في 86 مؤسسة:
- 55 منها مؤسسات ائتمان تضم 19 بنكا و36 شركة تمويل،
- و 31 منها هيئات معتبرة في حكم مؤسسات الائتمان من بينها 6 بنوك حرة و13 جمعية للقروض الصغرى و 10 شركات للوساطة في مجال تحويل الأموال.
ورغم ذلك تظل نسبة الاستبناك الوطنية متوسطة لا تتجاوز57%، كما أن أكثر من 70% من العمليات التجارية تتم خارج هذا القطاع.
وبغية تجاوز هذا الواقع، صدر الظهير الشريف رقم (193-14-1) بتنفيذ القانون رقم (12.103) بالجريدة الرسمية عدد (6328) بتاريخ 22 يناير 2015، وذلك بإدراج قسم خاص يحدد إطارا قانونيا يحكم نوعا جديدا من البنوك سماها القانون ب "البنوك التشاركية"، كآلية جديدة لتشجيع فئة مهمة من المجتمع المغربي على الولوج إلى الخدمات المالية، وكذا اندماجهم في النظام الاقتصادي الوطني.
وقد عرف المشرع المغربي هذا النوع من البنوك في إطار المادة 52 من القانون رقم (03/34) بكونها "أشخاصا معنوية خاضعة لأحكام هذا الباب ومؤهلة لمزاولة الأنشطة المشار إليها في المادة الأولى أعلاه (وهي: تلقي الأموال من الجمهور – عمليات الائتمان – وضع جميع وسائل الأداء رهن تصرف العملاء أو القيام بإدارتها) بصفة اعتيادية بما لا يتعارض مع أحكام الشريعة، وكذا العمليات التجارية والمالية والاستثمارية باستثناء كل عملية تتعامل بالفائدة أخذا وعطاء".
واختار المشرع تسمية هذا النوع من البنوك ب "التشاركية"، لأن العقود التي تتعامل بها يغلب عليها التشارك بين البنك والزبون، استنادا إلى مضمون العقد، على خلاف التجربة الشرقية التي استندت إلى أصول العقد في تسميتها بالإسلامية.
حضرات السيدات والسادة،
يمكن أن نرصد التحديات التي من المفترض أن تعترض البنوك التشاركية في عدة عوامل أهمها: (1)فتوة التجربة التي يمكن أن تتأثر بظروف مرتبطة أساسا بقلة الموارد البشرية المتخصصة في هذه الصناعة، خاصة تلك التي تتوفر على تكوين علمي ومهني مزدوج ومتين في المالية التقليدية وفقه الأموال ومقاصدها، (2)وهناك تحديات ضريبية تتعلق أساسا بمنع الازدواج الضريبي أو ثقله مما يرفع تكلفة منتجات هذه البنوك،(3)وقانونية ترتبط بعلاقتها ببنك المغرب كبنك مركزي له وصاية في نفس الآن عليها وعلى نظيرتها "البنوك التقليدية"، فالنظام المالي التقليدي يختلف تماما عن النظام المالي التشاركي، وبالتالي فكيف يمكن لهذه المؤسسة أن تتعامل على قدم المساواة مع نظامين مختلفين في المرجعية والآليات والأسس والمقاصد؟(4) ومن التحديات الأخرى، اكتمال وتعزيز كل مكونات المنظومة التشاركية من تأمين تكافلي وصكوك مالية بسوق الرساميل باعتبارها آليات داعمة ومكملة، إضافة إلى التخوف من الاقتصار والاعتماد الكبير على المداينات من مرابحة وإجارة، في مقابل الدور الاستثماري والتنموي الحقيقي الذي يمكن أن تقوم به المشاركات من مضاربة ومشاركة في محاربة الهشاشة وخلق مزيد من فرص الشغل وتقليص الفوارق الطبقية والمجالية.
لذلك ولضمان نجاح التجربة المالية التشاركية، يتعين توفير كافة الشروط اللازمة لذلك، ولعل من بين أهم تلك الشروط أن يعمل بنك المغرب على إخراج المناشير التي تحدد تفاصيل عدد من المواد في مشروع القانون الجديد، وأن يتسم عمل المجلس العلمي الأعلى وباقي مؤسساته بالفعالية والسرعة المطلوبة للنظر في العقود وتقويمها وتطويرها المستمرين، دون أن ننسى الدور الأساسي الذي يمكن أن تضطلع به كل الهيئات الرقابية في مراقبة وزجر المخالفات المالية.
حضرات السيدات والسادة،
إن علاقات المغرب الاقتصادية والمالية والدينية التاريخية المستمرة مع القارة الإفريقية تعتبر جد واعدة، باعتبار موقع المغرب الجيو استراتيجي ومؤهلاته الطبيعية والبشرية والتقنية ومتانة نظامه المالي والبنكي، خاصة إذا علمنا أن مجموعة من الدول الإفريقية أنشأت بنوكا إسلامية، وسجلت اقتصادياتها نسب نمو متسارعة تجاوزت 6% سنويا، متفوقة بذلك على مجموعة من الاقتصاديات المتقدمة، كما أن المرحلة الحالية تتميز بدافع إستراتيجية اقتصادية حقيقية تندرج في إطار الرؤية المتوسطة والطويلة المدى، الموجهة نحو تحقيق اندماج جهوي أعمق في أبعاده التجارية والمالية والاقتصادية، بل وحتى النقدية.
ومن شأن هذه التجربة تعزيز موقع المغرب كمركز مالي في إفريقيا عبر القطب المالي للدار البيضاء، هذا المركز الذي يحتل المرتبة 62 عالميا والثاني قاريا ،كما يؤكد ذلك دخوله الأخير ضمن مؤشر المراكز المالية الدولية وإقحامه لمؤشرات مالية تشاركية، وقدرته على استقطاب الأموال الأجنبية خاصة الخليجية منها التي تبحث عن فرص استثمار آمنة في ظل أجواء تخيم عليها آثار الأزمة المالية الأخيرة.
هذه العلاقة التي من المرتقب أن تعطي نفسا جديدا للاقتصاد المغربي، مع تنامي الاهتمام الذي تبديه المملكة بالاستثمار في إفريقيا على قاعدة رابح - رابح في إطار تعزيز التعاون جنوب-جنوب، حيث ستمكنها من ولوج أسواق مالية جديدة بتوسيع البنية التحتية البنكية، وخلق نوافذ للمعاملات المالية، وجذب الاستثمارات وتوزيعها على هذه المناطق، وخلق صيغ عملية تنموية تشرك بين المال والعمل، وتدعم البنية التحتية والاقتصاد الاجتماعي والتضامني خاصة، بالنظر إلى الفقر الذي يعانيه معظم مواطني الدول الإفريقية، وتوفير هامش مناورة أكبر في حال ضيق الأسواق المالية التي تتعامل معها حاليا.
وتعد مبادرة "صندوق إفريقيا 50" الذي تأسس بشكل رسمي بداية سنة 2014 في الدار البيضاء، مدخلا جديدا لاستعمال الصكوك الإسلامية إلى جانب الطرق التقليدية، في تمويل المشاريع الكبرى والاستثمارات طويلة الأمد التي تمتد ما بين 15 و20 سنة. وهي آليات غير مكلفة، تعتمد المشاركة في المشاريع وليس منح قروض تمويلية، من أجل امتصاص العجز في البنيات التحتية أساسا بالقارة الإفريقية.
إن تحقيق اندماج جهوي في أبعاده المتعددة، سيساهم في تحرير قدرات القارة ومؤهلاتها، ومنح مواطنيها فرص حياة أفضل، وسيساعد إفريقيا على تحمل مسؤوليتها والاعتماد على إمكانياتها الذاتية، عبر تطوير الشراكات جنوب- جنوب بين القطاعين العام والخاص، وتسهيل تبادل التكنولوجيات والخبرات.
كانت هذه إذن، بعض مسالك التفكير التي وددت تقاسمها معكم إسهاما مني في إغناء النقاش حول الرهانات والتحديات التي تواجهها البنوك التشاركية بالنظر إلى المقتضيات القانونية ذات الصلة،وإلى واقع السوق المالية والبنكية على المستويين الوطني والإقليمي.
وشكرا على حسن الإصغاء.