تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

كلمة رئيس مجلس المستشارين في افتتاح الملتقى البرلماني الثالث للجهات

2018-12-19

حضرات السيدات والسادة،

يطيب لي أن أفتتح أشغال هذا الملتقى البرلماني الثالث للجهات الذي ينعقد تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، والذي افتتح قبل قليل بتلاوة رسالة ملكية سامية توجيهية، ترسم خارطة الطريق وتسطر مسالك الفعل الواجب اتباعها من أجل التسريع بتفعيل ورش الجهوية المتقدمة، بغاية التجسيد الفعلي والناجع للتحول التاريخـي الذي يحمله هذا الورش الدولاتي الهام.

وأود بهذه المناسبة، أن أتوجه بالشكر الجزيل لكل المؤسسات الوطنية والترابية والفعاليات الحزبية والنقابية والمدنية والأكاديمية...، والتي تفاعلت بروح عالية من المسؤولية ولبت الدعوة للمشاركة في أشغال هذا الملتقى الذي يعتبر المناسبة السنوية المواتية لمأسسة الحوار والفكر الجماعي حول سبل تفعيل الجهوية المتقدمة والارتقاء التدريجي بآلياتها لإحداث التغيير المنشود على مستوى الحكامة ونموذج التنمية وتحقيق الديمقراطية التشاركية، عبر إتاحة الفرصة لتبادل الرأي والتقييم المعلل للمكاسب ونقاط الضعف وبلورة خلاصات مشتركة حول المخاطر وسبل التدارك ارتكازا على تأمل تشاركي موضوعي بمشاركة الفاعلين من مختلف المشارب والأطياف: برلمانيون، قطاعات حكومية، ممثلو الجماعات الترابية، المؤسسات الدستورية، هيئات الحكامة والمجتمع المدني والأكاديميون.

وهي مناسبة كذلك، لأتوجه بالشكر إلى شركاء مجلس المستشارين في تنظيم هذا الملتقى، وأخص بالذكر المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي، وجمعية رؤساء الجهات والجمعية المغربية لرؤساء الجماعات، وشركاءنا الدوليين مؤسسة كونراد أديناور ومؤسسة وستمنستر للديمقراطية.

كما لا يفوتني أن أتوجه بالشكر إلى كافة وسائل الإعلام التي تواكب أشغال هذا الملتقى بكل حرفية ومهنية.

حضرات السيدات والسادة،

إن الملتقى البرلماني الثالث للجهات يلتئم اليوم في ظل سياق خاص، يتسم بدخول ورش الجهوية المتقدمة مرحلة حاسمة فيما يتعلق بوضعه حيز التنفيذ على ضوء ما ورد في الرسالة الملكية السامية الموجهة للملتقى الثاني للجهات والتي أكد فيها جلالته أنه بعد أن "تم تسطير الأهداف، وتحديد المبادئ والقواعد بوضوح، واضطلع الفاعلون بمهامهم ؛ فإن المرحلة المقبلة ستكون حتما هي بلوغ السرعة القصوى، من أجل التجسيد الفعلي والناجع لهذا التحول التاريخـي" الذي يشكل بالنسبة لبلادنا إصلاحا طموحا "يقتضي انخراط مختلف الفاعلين، والتزام كافة القوى الحية، والهيئات الاجتماعية، في بناء هذا الصرح الكبير، والتحلي بروح المسؤولية العالية، ومواكبة مختلف مراحله بما يلزم من التعبئة والاقناع. كما ينبغي التسلح بقدر كبير من الإصرار، ونهج سبل الحوار والتواصل، من أجل الاستثمار الأمثل للإمكانيات الهائلة التي يوفرها الإطار المؤسساتي والقانوني، والاستفادة من آثاره الايجابيـة." (انتهى كلام صاحب الجلالة).

لذلك، فبعد أن تناول في دورته الثانية إشكاليات تدبيرية عملية تتعلق على التوالي بموضوعات : الإدارة الجهوية والموارد البشرية الجهوية، والمالية الجهوية، وبرمجة التنمية الجهوية، يركز الملتقى البرلماني الثالث للجهات، اليوم، على ما تحقق من تطور في ثلاث مجالات ذات الارتباط، وهي: الاختصاصات، والحكامة من منظور الشراكة، والاستشارة من زاوية تفعيل آليات الديمقراطية التشاركية.

وجذير بالذكر، ان الملتقى البرلماني للجهات، ومنذ انطلاقته، ارتكز على منهجية تحضير دقيقة تقوم على التقييم التشاركي للمنجزات ورصد الصعوبات وانتظارات المجالس الجهوية في ارتباط بتنفيذ الإصلاحات ذات الصلة.

وقد تبين أن هذا التمرين كان مجديا للغاية، وذلك على ثلاثة أصعدة على الأقل:

اولا، تبين كم هي مهمة للغاية عملية رفع البيانات والمعطيات المتعلقة بالحقائق الترابية إلى المستوى المركزي، الشيء الذي يسمح بالوقوف على درجة تكيف المجالس الجهوية مع متطلبات الإصلاح الجهوي؛

ثانيا، تبين أيضا أنه بفضل الحوار المستمر والمنتظم تتحقق قفزات نوعية في المجالين التشريعي والتنظيمي وتؤتي الإصلاحات أكلها، ذلك أن القوانين والأنظمة لا تكفي لوحدها إذا لم تكن معززة بحوار ينصب على شروط وضعها حيز التنفيذ. ولا يسعنا إلا أن نعتز بمعاينة الاعتماد التدريجي للمقاربة نفسها على صعيد سير مؤسساتنا. ويندرج في هذا السياق أيضا اللجوء إلى مشروع ميثاق لمعالجة إشكالية توضيح الاختصاصات، وذلك في شكل "أرضية للالتزامات المتبادلة"، رغم أن الميثاق المذكور لا يتمتع بالقوة القانونية.

ثالثا، تبين أخيرا أن المراحل المقبلة في جدول أعمال الجهوية المتقدمة في أبعادها البشرية والتنظيمية، والجبائية على الخصوص، ستجعل لامحالة من الحوار شرطا لامحيد عنه، قبل إقرار أي مبادرة تشريعية، ذلك أن الحوار هو الذي يتيح تأمين شروط إلتقائية انتظارات وإرادات كل من الدولة والجماعات الترابية.

حضرات السيدات والسادة،

يهمني أن أشير إلى أن المواضيع الثلاثة المطروحة على جدول أعمال الملتقى البرلماني الثالث للجهات، قد شكلت أرضية لمسلسل تشاوري تمكنت من خلاله المجالس الجهوية من الإفصاخ عن مواقفها إزاء الصعوبات التي تعترضها، بالنسبة لكل موضوع من الموضوعات الثلاثة، مع التعبير عن مقترحات الحلول التي تراها كفيلة بالارتقاء بالممارسة التدبيرية على المستوى الجهوي.

هذا وقد تميزت المقاربة المنهجية المتبعة لإعداد هذه الدورة بإشراك كافة جهات المملكة بواسطة آلية الاستمارة ذات أسئلة مفتوحة لتشجيع المسؤولين على تدبير الشأن العام الجهوي على التعبير بكل حرية ومسؤولية عن وجهات نظرها والمساهمة بمقترحاتها لتطوير وتحسين مردودية عمل المجالس الجهوية.

والجدير بالذكر في هذا الصدد أنه تم، في سياق انعقاد هذا الملتقى الثالث، إغناء منهجية جمع المعطيات والبيانات وتعزيزها بتنظيم لقاءات مباشرة، في شكل جلسات حوار ونقاش صريح وبناء بين مسؤولي عدد من الجهات وفريق الخبراء الذين استعان بهم مجلس المستشارين، مشكورين، لإعداد الوثائق التحضيرية لهذه الدورة.

ويهمني أيضا، أن أحيط المشاركات والمشاركين في فعاليات هذا الملتقى، ببعض الخلاصات الأولية التي أفضى إليها تحليل المعطيات والملاحظات الواردة عن مجالس الجهات بشأن المحاور الثلاثة التي تركزت عليها هذه الدورة من الملتقى البرلماني للجهات.

ذلك أنه، فيما يتعلق بإشكالية الاختصاصات، فإن كل الجهات تجمع على غياب الدقة في تحديد العديد من الاختصاصات المسندة للمجالس الجهوية، سواء تعلق الأمر بالاختصاصات الذاتية أو بالاختصاصات المشتركة أو المنقولة. وهو ما كان له تداعيات سلبية عديدة، بالنسبة لعمل المجالس الجهوية، برزت بشكل واضح في مسلسل إعداد برامج التنمية الجهوية الذي افتقد بدوره إلى الدقة والتركيز مما جعل من هذه البرامج خليطا من المشاريع والأهداف لا رابط بينها؛ كما برزت هذه التداعيات في تحول الجهات إلى ممول وداعم لإنجاز مشاريع ترابية متوسطة وصغيرة تفتقد إلى الطابع الجهوي –، وأخيرا فإن هذه التداعيات برزت بشكل واضح في ظاهرة لجوء المجالس الجهوية، بشكل مفرط أحيانا، إلى توقيع اتفاقيات شراكة وتعاون مع أطراف عدة، الشيء الذي يطرح تساؤلات حول مدى قدرة المجالس الجهوية على تتبع تنفيذ وتقييم هذا الحجم الهائل من الاتفاقيات والتعاقدات.

وفي هذا الإطار، يتضح بأن المحاولات الجارية حاليا بين الدولة والجهات للاتفاق حول ميثاق مشترك يحدد بدقة مجالات تدخل المجالس الجهوية، يجب أن تبلغ مداها مهما كانت الصعوبات التي تكتنف هذه العملية، وذلك اعتبارا لأهميتها وطابعها المنهجي والتشاركي والتجريبي، بالنسبة لباقي الجماعات الترابية التي تعاني بدورها من إشكالية عدم دقة الاختصاصات المسندة لها.

كما تجدر الإشارة إلى أنه، في ظل الاصلاحات المهمة الأخيرة التي باشرتها الحكومة عبر اعتماد ميثاق اللاتمركز الإداري وإصلاح وتحديث منظومة تدبير الاستثمار على الصعيد الترابي والجهوي، قد بات من اللازم على الدولة فتح ورش مراجعة القوانين التنظيمية للجماعات الترابية، على ضوء الاستفادة من التجربة والممارسة الحالية، لاسيما في الجوانب المتعلقة بمسألة التحديد الدقيق للاختصاصات المنوطة بكل مستوى من مستويات تدبير الشأن العام الترابي والمحلي بالمملكة.

وفيما يتعلق بموضوع الحكامة الترابية والجهوية، بالنظر، من ناحية، إلى درجة تملك المجالس الجهوية لقواعد الحكامة الجيدة الواردة في المراسيم التطبيقية للقانون التنظيمي 111.14، ومن ناحية أخرى، إلى انتظارات مجالس الجهات إزاء اللاتمركز الإداري، فإن المعطيات تفيد بأن اللجوء إلى آلية التعاقد في صيغتها الحالية على شكل اتفاقيات قطاعية وتعدد شراكات خارج إطار منهجي ومسطري محكم، يؤدي الى تجزيئ تدخلات الدولة وتشتيت جهود وموارد الجهة، وبالتالي لا يسمح لهذه الاخيرة بأن تبرز كشريك متميز لدولة سهرت على تحقيق وحدة عمل مصالحها على المستوى المركزي والترابي.

وضمن نفس الإطار، بينت الأشغال التحضيرية للدورة الثالثة من الملتقى، مرة أخرى، الأهمية البالغة التي يكتسيها تفعيل ورش اللاتمركز الإداري لدى المجالس الجهوية للدفع بالأمام بمسلسل الجهوية المتقدمة لرسم آفاق جديدة لمسلسل الجهوية المتقدمة.

وإذا كان ينبغي أن نهنئ أنفسنا على خروج ميثاق اللاتمركز الإداري إلى الوجود، غير أنه علينا أن نؤمن بأن الميثاق لا يعدو أن يكون أكثر من إعلان عن إصلاح، تحتاج الجماعات الترابية حاليا إلى معرفة كيفية تفعيله التدريجي من قبل الحكومة.

أما فيما يخص موضوع هيكلة وتفعيل المجالس الجهوية للهيئات الاستشارية التي تنص على مشاركة المواطنين في تدبير الشأن العام المحلي، فإن المعطيات تفيد أن بعض هذه الهيئات الاستشارية قد استطاعت أن ترقى إلى قوة اقتراحية وقدمت بالفعل تقارير موضوعاتية، بيد أن هذا لا ينبغي أن يحجب بعض الاكراهات التي تعترضها من قبيل: عدم الاقبال على الانخراط في هاته الهيئات الاستشارية، تسجيل الغياب المتكرر لعدد من أعضائها، الشيء الذي ينعكس سلبا على عملها..

حضرات السيدات والسادة،

في ضوء ما سبق ذكره، يتضح جليا بأن ورش الجهوية المتقدمة يتطلب انخراطنا وتعبئتنا جميعا، مؤسسات وفعاليات مدنية وتنظيمات سياسية واجتماعية واقتصادية، وبروح عالية من المسؤولية، تكثيف وتطوير الحوار والتشاور، من أجل العمل المشترك على:

أولا، دعم المشاورات التي تم إطلاقها حول ميثاق الاختصاصات، بالحرص مُسبقا على أن تكون المصالح القطاعية المعنية قادرة – بالنسبة لكل اختصاص ذاتي ومشترك –على تشخيص وإحصاء تعهداتها في أفق متعدد السنوات، وذلك من أجل تحديد مسؤوليات كل من الدولة والجهات؛

ثانيا، إعداد إطار مرجعي للتعاقد بين الجهات والدولة بصفة خاصة (مقترح قانون)، بغاية تأمين مكانة الصدارة التي تتبؤها الجهات، كمستوى للملاءمة على مستوى برمجة السياسات والبرامج العمومية على صعيد الدولة وبين هذه الأخيرة والجماعات الترابية؛

ثالثا، التسريع بإصدار النصوص التطبيقية اللازمة لتفعيل جميع مبادئ ومقتضيات ميثاق اللاتمركز الإداري وتتبع الحكومة عن كتب لجهود الإدارات المركزية لتفعيل مقتضياته الأساسية المتمثلة في نقل أكبر عدد من المهام لممثليها على المستوى الجهوي وتوسيع صلاحياتهم التقريرية والإمكانيات المادية والبشرية الموضوعة رهن إشارتهم، مع الحرص على إشراك الجماعات الترابية، وبصفة خاصة المجالس الجهوية، في عملية تحديد شروط وكيفيات التفعيل التدريجي لميثاق اللاتمركز الإداري، بدءا بالإعداد المشترك لخارطة طريق وأجندة تنزيله؛

رابعا، تشجيع الدولة على نهج سياسة إرادية في مجال إعادة انتشار الموارد البشرية المتاحة لديها بغية تعزيز الخبرات والكفاءات الإدارية والتقنية اللازمة للجهات في ميادين الخصاص الذي تعاني منه المجالس الجهوية قياسا بالأدوار المسندة إليها في مجال التنمية الترابية؛

خامسا، تعزيز مشاركة واستشارة الهيئات الاستشارية الجهوية في مختلف برامج ومشاريع الجهة وتتبعها، مع توخي الدقة في تحديد مهامها وشروط العضوية بها؛

سادسا، وعلى مستوى مجلس المستشارين، باعتباره رافعة مؤسساتية للجهوية المتقدمة، يتعين إحداث خلية، تضم مستشارين من ذوي العضوية بالمجالس الجهوية وأطر وخبراء، يسند إليها ترجمة ما يمكن ترجمته من مخرجات لهذا الملتقى إلى مبادرات تشريعية؛

كما يتعين إحداث مرصد برلماني للجهوية المتقدمة يعهد إليه بتتبع ورصد مستويات التقدم المحرزة في شتى المجالات ذات الصلة، وإعداد تقارير دورية ترصيدا للترسانة الفكرية الداعمة للجهوية المتقدمة.

تلكم حضرات السيدات والسادة، بعض الخلاصات والقناعات التي وددت تقاسمها معكم على أمل أن يتم إغناؤها باقتراحات عملية ضمن ورشات هذا الملتقى، في أفق التجسيد الفعلي والناجع لأسس ومرامي الجهوية المتقدمة.

وشكرا على حسن الإصغاء.