باسم الله الرحمان الرحيم، والصلاة والسلام على مولانا الإمام دام له النصر والتأييد؛
السيد رئيس الحكومة المحترم،
السادة الوزراء المحترمون،
السيد رئيس مجلس النواب المحترم،
السيد رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المحترم،
السادة رؤساء المؤسسات الدستورية المحترمون،
السادة الأمناء والكتاب العامون ورؤساء الأحزاب المحترمون،
السادة الأمناء والكتاب العامون للنقابات المحترمون،
زميلاتي وزملائي البرلمانيون المحترمون،
السيدات والسادة الحضور،
السيدات والسادة،
ينتظم منتدى العدالة الاجتماعية، الذي يُشرف مجلس المستشارين على أعماله، تحت الرعاية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله، في دورته السادسة والتي اُختير لأشغالها عنوانا دالا يضم بيد دفتيه آلية ودولة منشودة؛ فالآلية هي "الحوار الاجتماعي" الذي يرمي إلى إرساء سلم اجتماعي، وعلاقات تعاقدية تعاونية مبنية على الحوار بين مختلف المتدخلين، إنه يرسي بديلا لعلاقة اعتقد البعض، تنظيرا وممارسة، أن قَدَرها هو الصراع والتضاد. في حين يهدف مشروع الدولة المنشودة إلى البحث عن أفضل السبل لمقاومة التحديات الاجتماعية المطروحة، عبر استدعاء نموذج "الدولة الاجتماعية"، المتحملة لواجب المساعدة والعون للفئات المعوزة، وحماية المواطنين من انزلاقات اقتصاد السوق، والمُرسية "لشبكة التأمين الاجتماعي"، بمداخل التقاعد والشيخوخة والتأمين ضد الحوادث والتعويض عن العطالة؛
إن هذا يجرنا، بداية، للإقرار، بأننا بصدد معادلة صعبة، فمن جهة، هناك قَبول بأن العلاقات الشغلية والتفكير بخصوصها ومآلها، لم يعد للدولة فيها دخل، فالدولة التي نُظر إليها باعتبارها دولة أقل، دولة حد أدنى، دولة حارسة، تترك كل ما هو اجتماعي واقتصادي لإرادة المتعاقدين ولقانون السوق ولِيِدِه الخفية الباحثة عن التوزان، كما قال الليبراليون ذات يوم، ومن جهة أخرى، نَستدعي الدولة، تلك الدولة التي حررناها في الماضي من التزاماتها الاجتماعية والاقتصادية، نُصرة لمذاهب اقتصادية، أو اعتناقا لتوجهات تُعلي من قيم الحرية والليبرالية، أو فقط تنفيذا لوصايا مؤسسات مالية أصبحت تحتكر القرار الاقتصادي العالمي ومصيره، نطالبها اليوم، باسم التماسك الاجتماعي، وتعميم عوائد النمو وتوزيعها بشكل عادل، والتأمين الاجتماعي...إلى العودة من جديد من بوابة "الدولة الاجتماعية"؛
لقد مر العالم خلال الخمسة عشر سنة الأخيرة، من أزمات اقتصادية متلاحقة أدت إلى ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية، وعرت على هشاشة الاقتصاديات الصاعدة، وعلى ضعف آليات التضامن الدولي، زيادة على تداعيات جائحة كوفيد، التي عرت على ضعف البنيات الصحية والاجتماعية، وعلى صعوبة تحمل الاقتصادات الوطنية، لا سيما الصاعدة منها، لهزات من القبيل ذاته، كما كشفت أيضا على أنانية واحتكارية بعض المؤسسات الدولية، التي تعاطت مع أزمة إنسانية غير مسبوقة من منطلق الربح ولا شيء غيره؛
السيدات والسادة
إن الأسباب، المشار إليها سلفا، تجعلنا اليوم، في حاجة إلى أطروحات ومقاربات جديدة للتعاطي مع المعضلة الاجتماعية، ولتسمحوا لي بأن أطرح أسئلة تبدو لي منطلقا للتفكير:
-
فهل لازال بإمكان الدولة أن تعلب دورا في معادلة الاقتصادي والاجتماعي، وإذا كان الجواب بالإيجاب، فإن السؤال المقلق يبقى كيف؟ إن الدول تتجه نحو التحلل من "ثقافة المرفق العام"، وتُبقي في أسمى تدخلاتها، فقط، على أدوات للتوجيه، كما أن مركزها المشكل لجوهرها، ينقل كل اختصاصاته إلى فاعلين ترابيين جدد مدعوون لملء فراغات غياب الدولة، بثقافة تدبيرية أقرب إلى منطق القطاع الخاص؟
-
هل الحوار الاجتماعي، سيُبقي على خطاطة فيها طلب من جانب، وأجوبة من جانب آخر؟ إن مسلسلات الحوار الاجتماعي السابقة كان يحضرها الفاعلون الاجتماعيون للتفاوض مع المشغلين بشأن قضايا عديدة، لكن اليوم ظهرت ملامح حوار اجتماعي جديد، فانتقلنا من موضوع حقوق الشغيلة إلى موضوع ضمان الشغل نفسه، وهذا ما جعل الفاعلين الاقتصاديين ومطالبهم تسمو، في ظل أزمة كورونا وما بعدها، على مطالب الشغيلة؟
-
هل الإشكال أعمق مما تقدم، ويسائل نموذجنا الاقتصادي والاجتماعي المتبنى، خياراته، إكراهاته، والبدائل الممكنة له، وفي قلب ذلك كله أسئلة الدولة، ودورها، مواردها، وعلاقتها بباقي الفاعلين؟ وبالنتيجة، هل نحن مستعدين لتحقيق نقلة جديدة في مسار الدولة، وهويتها الاقتصادية والاجتماعية؟
-
إذا كان غاية "الدولة الاجتماعية"، هي محاربة ومكافحة كل تمظهرات اللامساواة واللاعدالة، بعقد اجتماعي جديد، يؤمن بالاستفادة العادلة من نسب النمو المحققة، فإن ذلك يتطلب كُلفة، وسياقا مواتيا للإعمال، وترتيبا للأولويات من داخل السجل الاجتماعي نفسه؟
هذه الأسئلة بمضمونها، وبسياق طرحها لا يعني البتة أن "المعادلة الاجتماعية" ليست انشغالا وطنيا، أو أن طموح إرساء الدولة الاجتماعية ليس رهانا للسياسات العمومية المتبعة، أو أنه ليس أفقا منشودا لها، واسمحوا لي أن أتوقف عند مقدمات تبدو لي أساسية في لقائنا هذا:
- أولها- يكمن في الوثيقة الدستورية، التي أوْلت الجانب الاجتماعي مكانة خاصة، فتضمنت قائمة غنية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وأدخلت إلى ثقافتنا الدستورية غايات وأفكار "العدالة الاجتماعية" ومقومات العيش الكريم (ديباجة الدستور)، وقيم التضامن، كما جعل الدستور برنامج الدولة الاجتماعية محددا في العديد من فصوله.
-ثانيها- هي مرجعية الخطابات الملكية السامية، والتي يظهر فيها "الانشغال الاجتماعي" بشكل قار، ويكفي، للاستدلال على ذلك، استحضار العناوين الآتية: "المبادرة الوطنية للتنمية البشرية" (الخطاب الملكي في 18 مايو 2005)، و"تحقيق العدالة الاجتماعية هي أساس التماسك الاجتماعي" (الخطاب الملكي لعيد العرش في 30 يوليو 2013)، دعوة المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي لإعداد "النموذج التنموي لأقاليمنا الجنوبية" (6 نوفمبر 2012)، و"تقرير حول الرأس المال اللامادي" (خطاب العرش ليوليو 2014) وبدعوة جلالة الملك إلى "اعتماد نموذج تنموي جديد" (الخطاب الملكي لـ 13 أكتوبر 2017)؛
- ثالثها- هي التوفر على الإطار المؤسساتي للاشتغال، وعلى وجود إرادة سياسية مشتركة متقاسمة، تجعل مقومات الدولة الاجتماعية، أولوية الأولويات...إن مؤسسات حماية الحقوق والحريات والنهوض بها، والهيئات الاستشارية، وتركيبة مجلسنا، والمرجعية الدستورية للحقوق، وبرنامج العمل الذي تقدمه، تشكل، في تكاملها وترابطها، فضاءات مناسبة للحوار، ولبلورة الأفكار، وتقارب القناعات، والتقائية السياسات؛
-رابعها- يكمن في الالتزامات التي حملها البرنامج الحكومي، الذي احتلت فيه انشغالات: تطوير النموذج الاقتصادي والنهوض بالتشغيل والتنمية المستدامة، وتعزيز التماسك الاجتماعي والمجالي، حيزا مركزيا.
السيدات والسادة،
إننا إذا لا ننطلق من صفحة بيضاء (Table rase)، أو ندشن لبدايات النقاش في الموضوع، بل إننا من منطلق الاختصاصات الدستورية لمجلسنا، ومن دوره في مواكبة النقاشات العمومية، يضع إشكال "الحوار الاجتماعي والدولة الاجتماعية" أمام نظر تداول جماعي، نأمل أن تشكل مخرجاته، وطريقة استثمارها، أرضية عمل للجميع، وعلى الخصوص بالنسبة لمجلسنا؛
إن الانشغال بالهواجس الاجتماعية، لا يعني تغييبا لأفقها السياسي ومنطلقها الحقوقي، إن المسألة الاجتماعية تحضر في نقاشاتنا كما سياساتنا، وهي تستحضر تراكمات بلادنا في مجالات الديمقراطية والتحديث، وتطور الحقوق والحريات، كما أن قواعد الحكامة الرشيدة والمسؤولية المقترنة بالمحاسبة تبقى أهم ضوابط لإعمالها، وبالتالي إن "الاجتماعي" ليس مجالا لرهانات ربح شرعية سياسوية، أو شعارا للاستهلاك، أو ورقة تُشهر لحسابات ضيقة، بل هو مجال للعمل لاستكمال حلقات المشروع الديمقراطي الحداثي الذي يجعل الإنسان في قلبي التنمية والديمقراطية، وواجهة لاستعادة الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية لمكانتها، وهي التي حُجبت ولعقود من دائرة الاهتمام بفعل جاذبية الحقوق المدنية والسياسية؛
كما أن "الحوار الاجتماعي"، في سياق الدولة الاجتماعية، ليس لحظة تابعة أو قوسا زمنيا يفتح ويغلق خلالها، بل هو انشغال دائم للسياسات العمومية في لحظات صياغتها وإعمالها وتقييمها؛ فالحوار الاجتماعي لم يعد محدودا ولا مقتصرا على الوضعية المادية للأجراء، وعلى ظروف عملهم، ولا معنيا فقط بتوفير فضاء لتدبير اختلافات أطراف العلاقات الشغيلة، بل هو جزء من سياسة اقتصادية مندمجة؛ فالحوار الاجتماعي معني بحماية فرص الشغل، ومعني بالتشغيل المنتج، ومعني برهان المقاولة المواطنة، ومعني بسياسة ضريبة فاعلة ومحفزة، ومعني بإصلاح تشريعي وقانوني وتنظيمي يواكب التطورات الجديدة لمتطلبات سوق الشغل، لهذا فإن طريقة ممارستنا ومأسستنا للحوار الاجتماعي، والتي شهدت تطورات عديدة وتجربة خيارات متنوعة، في حاجة إلى إبداع صيغ جديدة لممارستها، وفهما مغايرا لوظيفة الحوار وأجندته...
السيدات والسادة،
لا يسعني في الختام، إلا أن أعبر باسمكم عن عظيم امتناننا لما يوليه صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله من عناية خاصة لهذا المنتدى، كما أشكركم على الانخراط المعبر عنه من قبل كافة المشاركين، لإنجاح هذه المحطة من منتدى العدالة الاجتماعية، الذي قطعنا وعدا على الحرص على انتظامية انعقاده، وعلى تتبع مخرجاته، وعلى توفير كل السبل لمساهمة الجميع وبفاعلية في حواراته ومناقشاته.
أتمنى لأشغالنا كامل التوفيق والنجاح، والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته./.
السيد رئيس الحكومة المحترم،
السادة الوزراء المحترمون،
السيد رئيس مجلس النواب المحترم،
السيد رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي المحترم،
السادة رؤساء المؤسسات الدستورية المحترمون،
السادة الأمناء والكتاب العامون ورؤساء الأحزاب المحترمون،
السادة الأمناء والكتاب العامون للنقابات المحترمون،
زميلاتي وزملائي البرلمانيون المحترمون،
السيدات والسادة الحضور،