مداخلة رئيس مجلس المستشارين في افتتاح اليوم الدراسي المنظم من طرف مجموعة الكونفدرالية الديموقراطية للشغل حول موضوع 'الصحافة والاعلام' القتها بالنيابة السيدة المستشارة عضو المكتب صفية بلفقيه
بسم الله الرحمان الرحيم
السيد منسق مجموعة الكونفدرالية الديموقراطية للشغل،
السيدات والسادة المستشارون المحترمون،
السادة ممثلو القطاعات الحكومية المعنية،
السادة الأساتذة والخبراء المحترمون
أيها الحضور الكريم،
إنه لمن دواعي سروري وسعادتي أن ألبي دعوة "مجموعة الكونفدرالية الديموقراطية للشغل" المحترمة من أجل حضور أشغال اللقاء الدراسي الذي تنظمه اليوم، بشراكة مع النقابة الوطنية للإعلام والصحافة، حول موضوع هام يكتسي راهنية متجددة ويتعلق بالصحافة والإعلام وانتظارات ورهانات إصلاح القطاع وتحديات تأهيل المقاولة الإعلامية.
وبادئ ذي بدء أود أن أثمن اختيار موضوع الصحافة والإعلام ليكون محورا لهذا اليوم الدراسي الذي نتمنى لأشغاله كامل التوفيق، اعتبارا لكون الأمر يتعلق بما درج على وصفه بالسلطة الرابعة، وهي بالفعل كذلك وأكثر بالنظر إلى الأدوار النبيلة المنوطة بها في مجال التنشئة السياسية والاجتماعية وإشاعة المعلومة الصحيحة في كل مناحي الحياة، ونقل الخبر بكل فروعه مع الحفاظ على قدسيته وتوخي الحرية في التعليق عليه.
إن الصحافة، عندما تكون حرة ومسؤولة، تشكل بالفعل صنوا للديموقراطية وأساسا متينا للبناء المؤسساتي، وفاعلا رئيسيا في مصاحبة ومواكبة السياسات العمومية، الوطنية والمحلية، من أجل كشف العيوب والمثالب وتثمين الإيجابيات وترصيد المكتسبات، بل إنها في لحظات تاريخية معينة كانت شرطا موضوعيا لنيل الحرية والاستقلال، فلا أحد ينكر الدور الوطني الهام الذي تكفل به الاعلام الوطني إبان مرحلة الاستعمار، مثلما تحمل مسؤولياته في مرحلة الجهاد الأكبر، بعد التحرر من ربقة الاستعمار، من أجل البناء والتشييد وإقامة دولة المؤسسات وتحصين المجتمع المغربي والمحافظة على هويته المنفتحة وتعدديته الاجتماعية والسياسية والدفاع عن ثقافته وحضارته والحفاظ على مقومات نبوغه وشخصيته المتفردة.
لقد أدى الإعلام المغربي أدواره الحاسمة بكل وطنية وإخلاص في كل المحطات التاريخية التي مر منها المجتمع والدولة المغربية بما فيها تلك التي عرفت بعض التوتر والتدافع السياسي عندما تجاوز حدوده المقبولة، وكان أداءه راقيا في لحظات الإجماع الوطني كلما تعلق الأمر بتحصين الوحدة الترابية والسكانية للمملكة، وكلما ارتبط الأمر بتعزيز مسار الانتقال الديموقراطي وإنجاز الإصلاحات الدستورية والسياسية الكبرى.
ولأن قطاع الصحافة والإعلام مشهود له بهذا الحضور الوازن في الساحة الوطنية، فإنه حظي ولايزال بالاهتمام الأوفى من طرف كل الفاعلين، بما فيهم الجهازين التنفيذي والتشريعي وكذا العاملين في القطاع وجمعياتهم المهنية وهيئاتهم التمثيلية، فكل هؤلاء يعملون من مواقعهم المختلفة من أجل تطوير الممارسة الإعلامية والارتقاء بها من حيث تجويد الترسانة القانونية وتوفير الشروط المادية والمعنوية لتحرير القطاع وتمتيعه بما يستدعيه من توفير مساحات واسعة للإعمال الفعلي لحرية الرأي والتعبير، وكذا الاعتناء بالأوضاع المادية والشؤون الاجتماعية للصحفيين والعاملين في الميدان ولا سيما عبر دعم المقاولات الصحفية بكل ما يمكن من ضمانات قانونية ودعم مالي.
وفي هذا السياق، لا بد من التنويه إلى أن البرلمان، ومجلس المستشارين بصفة خاصة، يعتبر الصحافة والإعلام شريكا رئيسيا في عمله الدستوري، ليس فقط في مجال تفعيل المبادرة التشريعية لتطوير التشريع الإعلامي وتجويده كلما أتيحت الفرصة لدراسة مشروع أو مقترح قانون أو فحص سياسات أو برامج ذات صلة، ولكن أيضا وأساسا لأن الإعلام والإعلاميين يشكلون القناة الأساسية التي بها تتفاعل المؤسسة البرلمانية مع الرأي العام ومحيطها الخارجي، من منطلق أن الإعلام يعد في العالم الحالي بمثابة القاعدة الصلبة لتطور المؤسسة البرلمانية وترسيخ دورها كفاعل ديمقراطي وسياسي في البلاد.
وجدير بالتذكير في هذا النطاق أن مجلس المستشارين سبق له أن احتضن سنة 2011 لقاءات الحوار الوطني حول الإعلام والمجتمع بمشاركة مجتمعية واسعة، وذلك في إطار نهجه المستمر، الذي نعمل على تقويته ودعمه، والمتمثل في رعاية النقاش العمومي التعددي حول كبريات القضايا التي تشغل بال الرأي العام الوطني.
وقد كان للتوصيات القيمة التي صدرت عن هذا الحوار الوطني التعددي الأثر الطيب في مختلف الإصلاحات التي همت، فيما بعد، الترسانة القانونية المؤطرة للقطاع، التي وإن كانت –برأينا- قد عرفت قفزة نوعية، فإنها تبقى مع ذلك قابلة بشكل مستمر للتجديد والتحيين اعتبارا للتحولات المتسارعة التي يشهدها القطاع في ظل الثورة التكنولوجية التي لا تتوقف عن مفاجأتنا كل يوم.
ومن الطبيعي أن تجعل هذه التوصيات حرية التعبير والصحافة وضمان ممارستها على رأس الشروط المطلوبة لتطور مهنة الصحافة والإعلام ولضمان ممارسته لأدواره ووظائفه الأساسية فيما يرجع إلى التأطير والتوعية وصناعة الرأي العام، وكذا تعزيز البناء الديموقراطي وتقوية المؤسسات وتعزيز مشاركة المواطنين في السياسية وانخراطهم الواعي والمنتج في كل الديناميات التي تعتمل داخل المجتمع.
وفي هذا الإطار أشير بشكل سريع إلى مدونة الصحافة والنشر التي رأت النور سنة 2016، وقد جاءت خالية من العقوبات السالبة للحرية، متضمنة مقتضيات توسع ضمانات ممارسة الصحافة، وتعزز دور القضاء، وتراجع منظومة الزجر، والمتابعة في قضايا التشهير والقذف، في تناغم واضح مع المقاصد العليا لدستور 2011، ووفاء بالتزامات المملكة بصون حرية التعبير والصحافة.
أيها الحضور الكريم،
اعتبارا لكوننا نناقش هذا الموضوع الهام بمجلس المستشارين الذي يتميز بخصوصية تركيبته، ولا سيما من خلال تفرده بالبعد الجهوي والحضور المتألق للمكون النقابي، وأيضا بصلاحياته وأسبقيته الدستورية في القضايا المرتبطة بالشؤون الاجتماعية والتنظيم الجهوي للمملكة، وحيث إن مبادرة عقد هذا اللقاء الدراسي جاءت من الامتداد البرلماني للكونفدرالية الديموقراطية للشغل، فإنني أود أن ألفت كريم عنايتكم إلى مسألتين اثنتين على قدر كبير من الأهمية وتتعلقان بالجانب الاجتماعي للصحافيين والمقاولات الإعلامية الجهوية.
ففيما يخص المسألة الأولى المرتبطة بالأوضاع الاجتماعية للصحافيات والصحافيين، فإننا نؤكد أنها تثير فعلا العديد من الإشكالات الحقيقية ذات الصلة بملف التقاعد والخدمات الاجتماعية والتغطية الصحية وغيرها مما يتجسد في الواقع المزري لعدد من الصحافيين الذي ينبغي الانكباب على تغييره، ليس فقط سعيا إلى الحفاظ على كرامتهم وعفتهم، وإنما أيضا لأن الأمر يتداخل مع موضوع توفير مقومات الجودة في الفعل الإعلامي خاصة لجهة ضمان الاستقلالية المهنية والجودة في الإنتاج والأداء المهني ومراعاة أخلاقيات مهنة الصحافة.
ولي اليقين أن الأشواط المهمة التي قطعتها بلادنا في تجسيد الورش الملكي المتعلق بالحماية الاجتماعية ستوفر ما يكفي من الشروط المثلى لتكريس صيانة أكثر لحقوق الصحافيين المهنيين وحفظ كرامتهم، ولاسيما من خلال إحداث مؤسسة للنهوض بأوضاعهم الاجتماعية توفر خدمات محفزة وذات مفعول استقراري على الصحافيين وأسرهم، مما يسهم في تجويد الأداء المهني.
أما المسألة الثانية والتي لا تقل أهمية عن الأولى فهي تخص "الإعلام الجهوي" الذي برز كفاعل رئيسي بدأ يفرض نفسه مقوما مهما في تدعيم الديموقراطية والشفافية وتوعية المواطن بتلازم حقوقه وواجباته، ومواكبة السياسات العمومية في المجالات الترابية الجهوية والمحلية، فضلا عن كون هذا الصنف من الإعلام بات وسيلة فعالة في هيكلة الديموقراطية باعتباره يدخل في ما يصطلح عليه "إعلام القرب" الذي يقوي المشاركة السياسية للمواطنين ويذكي انخراطهم في تدبير الشؤون المحلية.
ولا شك أن الإعلام الجهوي ببلادنا، خاصة المواقع الإلكترونية، تطور بالموازاة مع التقدم الحاصل على مستوى تنزيل الديموقراطية الجهوية الموسعة، لكنه تطور يبقى بطيئا وفي حاجة إلى مزيد من الدعم والمؤازرة حتى يصير هذا الإعلام فاعلا حقيقيا، بجانب الفاعلين الرسميين من جهات وجماعات ترابية ومصالح خارجية، يحدث الأثر المرغوب في مواكبة السياسات المحلية وتقييمها خدمة للصالح العام.
إن هذا الإعلام الجهوي، الذي نأمل أن يحظى باهتمام السادة المتدخلين في هذا اللقاء من خلال اقتراح المداخل الممكنة للرقي بالممارسة الإعلامية الجهوية والمحلية، هو المعول عليه في تعزيز الذكاء الاقتصادي الترابي وتحقيق فهم أفضل للمجالات الترابية الجهوية وتعزيز تنافسيتها الوطنية والدولية وإبراز مقدراتها الطبيعية ومؤهلاتها السياحية وفرصها الاقتصادية.
وجدير بالذكر في هذا السياق أن مجلس المستشارين، بما هو واجهة التمثيل الجهوي والترابي للمملكة، حريص على تطوير التجربة الجهوية المغربية الواعدة من خلال إحاطتها بالسند التشريعي الملائم، والترافع الجاد الضروري، والمصاحبة اليقظة لإنجاح مسلسل الجهوية المتقدمة.
أيها الحضور الكريم،
لئن اقتصرنا على المسألتين سالفتي الذكر بحكم الاعتبارات التي ذكرناها، فإننا واعون تماما أن موضوعنا اليوم متشعب ومعقد ويطرح الكثير من التحديات التي تستوجب المواكبة والتحيين القانوني المستمر، وعلى رأس هذه التحديات التحدي التكنولوجي، التحدي الاقتصادي، تحدي التكوين والتكوين المستمر، تحدي الانضباط لأخلاقيات المهنة، وغيرها من التحديات التي تواجه الصحافيين كأفراد ولكن أيضا تنتصب على وجه الخصوص في وجه المقاولات الإعلامية التي تواجه مشكلة مواصلة الاستثمار في مجال حساس ومحفوف بالمخاطر، وهذا يستوجب بالتأكيد دعما إضافيا من طرف الدولة.
وفي الختام أود أن أؤكد أن الدولة بكل مؤسساتها بذلت مجهودات لا يجب إنكارها في تطوير وتجويد منظومة الإعلام الوطني والنهوض بالمقاولة الإعلامية، وأمامها الكثير مما يلزمها القيام به في إطار المقاربة التشاركية، لكن الموضوعية تقتضي كذلك أن أشير إلى أن الجسم الصحفي نفسه تعتريه بعض العيوب والنقائص التي تعيق هي أيضا تطوير الممارسة الإعلامية ببلادنا، مما يلقي على عاتق الصحافيين ومؤسساتهم المهنية والتمثيلية، المجلس الوطني للصحافة على الخصوص، مسؤولية المساهمة البناءة في الجهد المبذول لإنجاز النهضة الإعلامية المأمولة.
نقول هذا الكلام إيمانا منا بالدور الوطني المحوري المسنود لوسائل الإعلام بكل أصنافها، وهو دور يفرض عليها مزيدا من التحلي باليقظة والتأهب الدائم للتصدي للحملات المغرضة التي تشنها بعض الجهات التي يغيضها تقدم ونماء واستقرار المغرب كقوة إقليمية صاعدة، وما أكثرها هذه الأيام، وكذا الانخراط المستميت في الدفاع عن القضية الوطنية وكل القضايا العادلة للأمة المغربية.
وسيبقى مجلس المستشارين، بكل مكوناته وهياكله، مستعدا لتفعيل كل صلاحياته الدستورية في التشريع والمراقبة وتقييم السياسات العمومية من أجل مواكبة قطاع الصحافة والاعلام بكل ما يستحقه من اهتمام وتتبع لتطويره بما يجعله في مستوى الرسالة الإعلامية النبيلة.
شكرا على حسن إصغائكم، والسلام عليكم ورحمة الله.